للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

أفلاطون أن رابسودست اليوناني كان لا يقرأ شعر هومر إلا تشنج وصرع. وأن رجلاً من رجال الموهاك لتنزع السكين من جلد رأسه وهو لا يشعر ولا يتألم ما دام يغني أنشودة الموت وأن السلطة العظيمة التي كانت للشعراء الأقدمين في الفال وألمانيا على الجماهير التي تسمع إنشادهم لما تدعو إلى الدهشة وعدم التصديق في هذا العصر الحديث. هذه الإحساسات وأمثالها قلما تراها في الجماعات المتحضرة، وهيهات تراها بين أولئك الذين ينعمون بمرافق تلك الحضارة ومزايا هذا التمدين. ولكنها تدوم زمناً أطول بين القرى ومزارع الريف.

إن الشعر يجسم الخيال للذهن كما يجسم المصباح السحري الأشباح أمام العين وكما أن المصباح السحري لا يخرج أحسن صورة إلا في غرفة مظلمة فكذلك الشعر لا تسمو درجته ولا يبلغ منزلته الحقيقية إلا في العصور المظلمة، فإن ضوء العلم إذا انتشر على صوره وضحت معالم الأشياء واستبانت ظلال اشك الاحتمالات، إذ ذاك تتلاشى تلك الألوان وتنطفئ تلك الملامح التي رسمتها يد الشاعر لأشباحه وخيالاته. لأننا لا نستطيع أن نظفر بتلك المزية العظيمة مزية الجمع بين الحقيقة والخيال، بين رؤية الواقع الواضح والاستمتاع اللذيذ بالتصورات. . . .

وإن الذي يريد أن يكون شاعراً عظيماً في مجتمع متعلم متمدن عليه أن يصبح أولاً طفلاً صغيراً. ينبغي له أن ينفض رأسه نفضاً مما يحتشد فيه وأن يجهل كثيراً من العلوم التي تلقاها والتي ربما كانت إلى الآن سبب نبوغه وشهرته. إن ملكاته ومواهبه ستكون هي العقبات التي تعترض طريقه. وسوف تكون المصاعب التي يغالبها بمقدار مجاراته وتعلقه بمرافق المدينة التي تحيط به، كما أن اندماجه هذا في الحياة التي حوله سيكون بمقدار ما عليه ذهنه من قوة ونشاط وعساه بعد هذه التضحيات والمتاعب أن يقول شيئاً غير شبيه بالرجل الألثغ أو الطلل الحديث. فلقد رأينا في عصرنا هذا مواهب كبيرة ومجهودات عظيمة وتأملات طويلة تصرف جميعها في مكافحة روح العصر ثم ترجع - لا نقول بالفشل التام - ولكن بنجاح مشكوك فيه وشهرة خافتة ضئيلة.

ط. ر.