للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

غوصاً حتى بلغوا في ذلك المبالغ، ووصلوا إلى الغاية التي لا وراءها، وإني لا أظن أن لعلي بن العباس الرومي أو بشار بن برد أو أبي نواس أشباهاً ونظائر في هذه البلاد، على أني مع ذلك لست أنكر على الأندلسيين ذكاءهم وتوقدهم وأنهم - كما رأيت وكما وصفوا إلى - (عرب في العزة والأنفة وعلو الهمة وفصاحة اللسان وإباء الضيم والسماحة بما في أيديهم والنزاهة عن الخضوع والاستخذاء - هنديون في فرط عنايتهم بالعلوم ورغبتهم فيها وضبطهم لها - بغداديون في نظافتهم وظرفهم ورقة أخلاقهم وذكائهم وجودة قرائحهم ولطافة أذهانهم ونفوذ خواطرهم - يونانيون في استنباطهم للمياه ومعاناتهم لضروب الغراسات واختيارهم لأجناس الفواكه وتدبيرهم لتركيب الشجر وتحسينهم للبساتين بأنواع الخضر وصنوف الزهر - صينيون في إتقان الصنائع العملية وأحكام المهن الصورية - تركيون في معاناة الحروب والحذق بالفروسية والبصر بالطعن والضرب)

كبرت حول دياركم لما بدت ... منها الشموس وليس فيها المشرق

ولو أبصروا ليلى أقروا بحسنها ... وقالوا بأني في الثناء مقصر

وهنا انبعث أبو عبد الله الصقلي الفيلسوف وقال ما تلخيصه، الذي أراه أن شعراء كل قطر من الأقطار أو جيل من الأجيال لابد من أن يتأثروا بالمحيط الذي يحيط بهم، وأن يصطبغ شعرهم بصبغة ما يرون ويحسون من حولهم، فالشاعر الجاهلي أو المبتدي في الجاهلية والإسلام الذي لا تقع عينه إلا على صحراء مقفرة، أو سماء ماطرة، أو وحش كاسر أو غزال نافر، لم ير ريفاً، ولم تغذه رقة الحضر، ولم يشبع من طعام، قد خالط الغيلان، وأنس بالجان، وأوى القفر واليرابيع والظباء، فإنه حري أن لا يقول إلا في جنس ما هو بسبيله من وصف البيد والمها والظبي والظليم والناقة والجمل وما إلى ذلك، في قول مؤنق مشرق واضح الطريقة لا تعمل فيه ولا كلفة، يوائم أمزجتهم وطبائعهم، ويلائم المحيط الذي فيه عاشوا والجو الذي فيه درجوا والفطرة الأولى التي فطروا عليها، والسذاجة التي هي من خاص صفاتهم، وقد يكون لهم مع ذلك الحكمة البارعة والكلمة الرائعة والمثل السائر والموعظة الحسنة، مما يبهر أعرق المتحضرين ويصيب منهم أقصى غايات الإعجاب والإكبار، ولكنه الوحي والإلهام الذي تلهمه الفطرة القوية النقية البريئة، ويؤتى الطبيعة الكريمة ما يؤتى سهوا رهوا، وليس هو بنتاج العقل المسموع ولا بثمار الملكات المكتسبة.