للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

(وبعد) فأما المولدون وهم الذين تصح المفاضلة بينهم وبين شعراء المفرب لأنهم جميعاً تحضروا وعاشوا في رونق النعيم واعتركوا بالدنيا واعتركت بهم فالرأي عندي أن يقال إن الشعر لفظ ومعنى وأما اللفظ فإن شعراء المشرق لأن أكثرهم جاروا الأعراب وأهل البادية ولقنوا اللغة منهم والتصقوا بهم ونشؤوا في أحضانهم وغذوا بلبانهم ترى لهم الألفاظ المتخيرة، والديباجة الكريمة والطبع المتمكن والسبك الجيد وكل كلام له ماء ورونق، وترى شعرهم رصيناً متسقاً على استواء واحد لا يتدافع من جهاته ولا يتعارض من جوانبه ولا يجمع ولا يشتط ولا يأتيه الضعف والهلهلة والاسترخاء من أية ناحية من نواحيه. وأما المعنى فإن فحولة وشعراء المشرق الذين افتنوا في المعاني فتناناً وغاصوا عليها وأمعنوا حتى ظفروا بكل معنى عجيب يعمر الصدر ويزكي الروح ويشع في دنى العقل فتنجاب له ظلمته وتنير نواحيه وتنفتح مغالقه مثل بشار بن برد وأبى نواس وابن الرومي وهذه الطبقة فهم إنما بلغوا هذه الدرجة لأنهم من الموالي أبناء تلك الأمم الحمراء الذين امترسوا بالحضارة قبل العرب امتراساً وعالجوها وعالجتهم وداوروا صنوفها من الصناعات والعلوم وما إليها وصرفوا فيها أعنة الفكر وافتدحوا لها زناد الرأي وهلم حتى أن ذلك على كر الغداة ومر العشي عقولهم، وشحذ أذهانهم وأذكى أرواحهم وأكسبهم ملكات عبقرية عجيبة، فورث ذلك منهم أبناءهم وانحدر مع دمائهم وكان منهم هذا النبوغ الذي نرى آثاره في الإسلام.

وما كاد أبو عبد الله يتم قولته تلك حتى صاح أبو بكر بن القوطية وقال أشيخنا شعوبى؟ فقال أبو عبد الله إني وإن كنت لا أرى لعربي فضلاً على عجمي إلا بالتقوى وإن تفاضل الناس فيما بينهم ليس بآبائهم ولا بأحسابهم ولكنه بأفعالهم وأخلاقهم وشرف أنفسهم وبعد هممهم، فمن كان دنيء الهمة ساقط المروءة لم يشرف وإن كان من بني هاشم في ذؤابتها، ومن أمية في أرومتها، ومن قيس في أشرف بطن منها، ومن ثم يقول الله جل شأنه إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ويقول رسول الله في خطبة الوداع، أيها الناس إن الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وفخرها بالآباء كلكم لآدم وآدم من تراب، ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى - فإني مع هذا أقول ما قاله ابن المقفع - وقد سأل جماعة من أشراف العرب - أي الأمم أعقل فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا لعله أراد أصله من فارس فقالوا فارس، فقال