قرناً من تاريخ أوروبا. هاتان الجزيرتان لهما عادات ولا قوانين، ولهجات شتى ولا لغة، وروايات حروب وغارات ولا تاريخ، واحتياجات وثروة ولا تجارة، وأخشاب وموانئ ولا أساطيل، وأساطير ولا شعر. وثارات وأوتار ولا قضاء، وجمال مناظر ولا تصوير، وأغاريد بلابل ولا موسيقى. هاتان الجزيرتان تقعان في بؤرة مدنيات الشعوب الأوروبية بأكرم بقعة وأحقها دون غيرها بأحسن الرقي المادي والعقلي والتجاري والسياسي، وهما بالرغم من ذلك قد نامتا أطول نومة فوق معزف التاريخ الموسيقي الرنان، فإلى ماذا ينسب ذلك السبات التاريخي؟ يقول العلماء سببه عدم الاستقلال والرسوف في قيد العبودية إذ ما برحتا تابعتين لبعض الدول الأوروبية. أنا لا أعارض في ذلك ولا أناقش. ولكني أقول لماذا بقينا في الرق والعبودية؟ لماذا لم تنالا الاستقلال وتظفرا بالحرية. وأجيب على الفور، ذلك لأنه لم يظهر بهما ذلك البطل العظيم الهائل الشخصية المملوء نجدة وهمة وإيماناً وإخلاصاً - القادر على إشعال قلوب مواطنيه بلهيب الوطنية والغيرة والحمية والطموح إلى الاستقلال والتعطش إلى الحرية. ما أظن أهالي (ساردينيا) و (كورسيكا) قد خلقوا من طينة أخبث وأردأ مما خلق منه سائر الشعوب الأوروبية، أو أنهم الأم عنصراً من تلك الشعوب أو أخس جوهراً - ولكن أجود كومة من الحطب لا يمكن أن تشتعل - كما قلت - من تلقاء ذاتها. بل لابد أن تسلط عليها ثقاباً أو شعلة، ولا مشاحة في أن الطبيعة قد ضنت على هاتين الجزيرتين طول هذه الحق المديدة بالشعل الوطنية اللازمة لها الأساسية لنهضتها وقيامها.
إن البطل يكون له من قوة التفكير ونفاذ البصيرة ما يسبر به أغوار الأحوال الاجتماعية والسياسية في وطنه حتى يمس موضع الحاجة ويلمس مكان الألم ويدرك من الشؤون والمسائل ما قد اختمر ونضج وأصبحت تتمخض عنه أحشاء العصر فيرى أن هذا وحده - لا سواه - هو لباب الحق بالنسبة لجيله وهو أمس حاجات أمته وشعبه، فليس غير البطل الذي يبعثه الله لشعبه يستطيع أن ينفذ ببصره إلى هذه الحقيقة الكامنة المخبوءة الآخذة في دور النشوء والتكون في ضمير الغيب وفي طي المستقبل العاجل - ليس غير البطل يستطيع أن يتبين هذه الخطوة الضرورية التي تهم بها الأمة ويتحفز لها الشعب ويشمر. هذه في نظر البطل هي مسألة المسائل وحقيقة الحقائق، هذه هي همه الوحيد وغايته