للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

فينتج ضمناً من هذا أنهم هم (أعني أولئك السخفاء) أفضل وأشرف من أثمة العالم وقادته لبراءتهم من تلك الجرائم ولنقاوة قلوبهم من تلك الأهواء اللئيمة والشهوات الأثيمة - والدليل على ذلك أنهم لم يغزوا آسيا كالاسكندر ولم يسقطوا روما كهانيبال ولم بدوخوا أوروبا كنابليون. ولكنهم يعيشون ويتركون غيرهم يعيش وينعمون بالحياة ويتركون غيرهم ينعم. ومن حماقة أولئك السخفاء أنهم إذا حاولوا انتقاد البطل كانت عنايتهم بتأمل الجانب العبقري وخلال البطولة أقل من عنايتهم بتأمل الخصال الشخصية التافهة العادية التي يشارك البطل فيها جميع خلق الله بل حيواناته. وما دام البطل لابد له من أن يأكل ويشرب وينام ويعبس ويبتسم ويضحك ويبكي ويواصل ويقاطع ويحب ويكره وتتعاقب على مزاجه الأهواء والعواطف والنزعات المختلفة التي منها تتكون الطبيعة البشرية وبدونها يكون المخلوق إما ملكاً أو شيطاناً - أقول ما دام البطل شأنه في هذا شأن سائر الخلائق فيجد الناقد السخيف في صفحة عرضه ألف مأخذ ومطعن ومن ثم قيل أن المرء لا يكون البتة بطلاً في عين خادمه لأن الخادم لا يكاد يبصر مولاه إلا في الحالات الاعتيادية التي يشبه فيها سائر الناس ويشبه فيها الخادم ذاته ولكن لا عار على السيد في ذلك فما سببه أن السيد ليس ببطل بل الخادم ليس إلا خادماً. وما دام رجال التاريخ يتولى نقدهم أولئك الخدام الانتقاديون فسيخرجون من سوق النقد بأخسر الصفقات وتشييل كفتهم في الميزان أو يبوؤون بالخزي والعار ويهبطون إلى أدنى من مستوى أولئك النقاد أنفسهم. فلا ينسى القارئ أن ثرسيثس الوارد ذكره في إلياذة هوميروس كان مولعاً بسب الملوك وشتم الأمراء - لم يكن مقصوراً على ذلك العهد الخرافي القديم بل موجوداً في كل عصر لم يخلو منه جيل من الأجيال ولكنه - مع الأسف الشديد - لا يلقى في كل جيل ما لقيه أيام هوميروس من عقوبة الضرب بالعصا والسياط على أن آفة حسده وحقده هي الشوكة الدامية التي كتب عليه أن يحملها في جلده. والجمرة الحامية التي قيض له أن يدفنها في كبده. وحسبه بعد ذلك غيظاً وكمداً أن آراءه السديدة وانتقاداته الوجيهة ستذهب بعد كل مجهوداته العظيمة هباء منثوراً.