للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

هنا ننتقل إلى موضوع الاسترسال في الأسى والخلوة إلى الذكريات الحزينة فنقول أن هذا الإحساس الذي بنا أن نسميه رقة القلب من الحزن أو ذوبان النفس من الشجى أو على سبيل الإختصار (حنين الشجى) لا يكون مصحوباً بالكرب والألم الحقيقي الإيجابي فإن الكرب الواقع والألم الحاصل فعلاً يكون عادة أشد عذاباً من أن يترك مجالاً لمثل هذه العاطفة اللينة الرقيقة أعني (حنين الشجى) ومصداق ذلك أنك إذا عرضت على عينك صورة حادث آليم أمكنك أن تجيل بصرك في أنحاء الصورة طويلاً وتتأمل أوصافها مالياً وتبكي عليها بزفرة الحنين وآنة الذكرة ودمعة العاطفة الرقيقة الذائبة وهذا ما لا تستطيع أن تصنعه إذا علاض على عينك الحادث الآليم بالذات إذ تنفر منه أشد النفور وتهرب منه هرباً والواقع إن الألم الفعلي وحنين العاطفة لا تجمعهما قط جامعة، وكربة الحزن الحقيقي لا يمكن أن يصحبها لذة الاسترستل في أحزان الذاكرة الخيالية وليس من شأننا أن نلعب بالنيران ولا بالصارم والسنان. ولا أن نعتنق الذئاب والسباع والآفاعي طوعاً وإختياراً. فإذا رأيت الرجل يلذه أن يسترسل في الذكرة الأليمة ويصونها في وعاء ذاكرته ويتعهدها بالري والسقيا كي لا تزال غضة ندية خضراء فأيقن أنه قد زالت عنها خاصة الألم وقد أصبحت غير جارحة له ولا قادحة ولا فادحة ولا لائعة ولا لاذعة ولا فاجعة ولا موجعة. ومهما تكن قد آلمته ومضته في أول أمرها فلقد عادت اليوم وهي له مصدر لذة وفي ذكراها غبطة ومتعة. وكأي من سيدة كريمة ما أن تزال على مدى الأيام تذرف الدموع على مخلفات ثياب طفلها المفقودتخزن ما بقي من آثارها العزيزة في وعاء مضمخ بالمسك والعبير وتتنفس الصعداء إذ تذكر تلك الأعضاء الغضة اللطيفة التي كانت تزين تلك الثياب - وكأي من غادة حسناء تخبأ كل ليلة في ثنايا وسادتها خصلة جعدة كانت حين ما تتهدل على جبين أبلج قد لثمته شفاه الأموج لما لحدت له أيدي العواصف في سواء اليم قبراً، فمثل هذه السيدة ومثل هذه الغادة كلتاهما خليقة حين تقرأ ما ذكرت آنفاً من لذة الأحزان ومتعة الأشجان أن تتهمني بالقسوة والجفاء وبالفظاظة وغلظة الشعور وبالكذب والبهتان ولكني أعتقد مع ذلك أن أمثال هؤلاء إذا سألن أنفسهن هل يجدن غصة ومضضاً في تماديهن في حزنهن وادمانهن ذكرى مصابهن فلن يرين بداً من الإجابة على هذا السؤال بلفظة (كلا) ولا بدع فإن للدموع عند بعض الناس حلاوة