الوصفين. وما أعجب كل ما فاض من هذين القلمين وأين الذي لم يشعر بفتنة هذه الأصائل الحزينة المتوانية. وسحر تلك المغارب المكتئبة المتباطية. حينئذ يظل الكون في قبضة الآسى وفي أسر الشجى، ولا غرور فألهة الآسى تتبوأ في دولة الغروب عرشها وعروس الشجى تتخذ من قصر الشفق خدرها وهناك تلقانا وتستقبلنا. ولدى بابها الشفقي تأخذ بأيدينا وتسايرنا خلال عوالمها الخيالية. فأما شخصها وشبحها فلا نراه ولكن يخيل إلينا أنّا نسمع تصفيق أجنحتها بل إن طيفها ليغشانا حتى في أرجاء المدينة الجياشة باللجب والضوضاء إذ نحس روحنا حزينة ترفرف في كل طرقاتها الجافة المستطيلة ونبصر النهر المظلم الأمواج ينساب كخيال الروح الشريدة كأنما يحمل سراً خفياً تحت أمواجه الكثيفة وفي خلوات الريف الساكنة حينما تتساقط ظلال المساء على الأشجار والأعشاب فتضائل من أشخاصها وتغض من أشباحها وتسمع أجنحة الخفاش وصوت القنبرة حينئذ يزداد سحر المنظر الحزين رسوباً في قلوبنا ونفاذاً إلى ضمائرنا إذ يخيل إلينا أنّا قائمون حول فراش ميت وإنّا نسمع في حفيف الدوح حشرجة النهار المحتضر حينئذ ترى الحزن العميق مخيماً والسلام الشامل مستفيضاً وفي صفاء هذا الهدوء تتضائل هموم العيش وأكدار الحياة اليومية وتضمحل إذ يبدو لنا أن هناك أشياء أخرى جديرة بالسعي والجهاد خلاف الخبز واللحم بل خلاف العناق واللثم - وأعني بهذه الأشياء أسرار محاسن الطبيعة وما تستثيره من أسرار محاسن الروح. في هذه الساعة الرائعة الجميلة ينثال علينا من الخواطر ما نسمع وحيه ولا نكاد ننطق به فترانا ونحن قائمون في سكينة المساء تحت قبة الفلك المضمحلة الضياء. نشعر أننا أجل وأعظم من عيشتنا الحقيرة وحياتنا التافهة الضئيلة وإذا تراءت لك الدنيا حينذاك حولها سجوف العشى المرسلة وسدول السدفة مسبلة. علمت أنها ليست بذلك المصنع القذر الذي تعهد ولكنها الهيكل الفخم الجليل يؤدي فيه الإنسان مناسك عبادته وتلمس يداه أحياناً في زواياه المعتمة يد الإله الأعظم جل شأنه.
إذا ما كساك الله سربال صحة ... ولم يخل من قوت يحل ويعذب
فلا تعبطن المترفين فإنهم ... على حسب ما يكسوهم الدهر يسلب