أنوارهم وكسفتني شموسهم وأحرقتني لفحات شهبهم. إذ ليس أمحق للرجل الصغير من ظل العظمة الذي يسقط عليه من شخصية الرجل العظيم فيكاد يمحوه محواً، ولكني على الرغم من ذلك شغفت بأن أرى عظماء آوروبا إذ كنت قرأت في بعض مؤلافات الفلاسفة أن جميع الحيوانات ينحط نوعها وتفسد طبائعها في أمريكا وفي جملتها الإنسان، ينتج من ذلك أن العظيم الآوروبي يكون أسمى من العظيم الأمريكي بمقدار سمو جبل ألبى على ربوة من ربى هدسون ومصداق ذلك ما نراه من العظمة والأبهة النسبية لكثير من السياح الإنكليز بيننا بعد انحطاط مكانتهم وصغر أقدارهم في بلادهم الأصلية. لذلك قلت في نفسي لأزورن هذه القارة الآوربية معرض العجائب والغرائب فأُبصر ذلك الجنس القوي العظيمالذي أنا أحد ذريته الضعيفة المنحطة.
وكان من حسن حظي أو منم سوء حظي أن قضيت وطرى وحاجتي من ذلك التجوال والطواف. فلقد طوفت في آفاق شتى وشاهدت كثيراً من مناظر الحياة المتنقلة وصورها التحركة، ولا أقول أني درست هذه المناظر دراسة فيلسوف ولكن مثلي وإياها كمثل عاشق المناظر الغريبة إذ يتلوم على معارض الصور المختلفة بحوانيت المصورين ينتقل من واحد إلى آخر فتارة تستهويه صورة غادة حسناء وتارة مقابح صورة شوهاء، وآناً محاسن منظر طبيعي، وكما من عادة السياح اليوم أن يحملوا ريشة التصوير أثناء رحلاتهم فيعودون إلى أوطانهم مملوءة حقائبهم بالصور والرسومات فلقد عزمت أن أصنع بضع صور اتحف بها صحبى وخلاني، بيد أني اذا أملت ما قد أعددت لهذا الغرض من الخطرات والمذكرات ساءني وأحزنني أن تكون أميالي وأهوائي العابثة قد صرفتني عما يعمد إليه السائح الرشيد من شريف المقاصد والأغراض حينما يريد أن يؤلف كتاباً. وإني لأخشى أن يبوء كتابي من الخيبة والخسران بمثل ما يبوء به تصوير المصور الذي يسيح في القارة الأوربية فلا تحدوه أمياله الشاذة وأهواؤه الشاردة إلا إلى تصوير الأركان الخفية والزوايا المستترة والأماكن الغامضة، فمصوره يجيئ بناء على ذلك غاصاً بالأكواخ والمناظر الخلوية والدمن والأطلال المجهولة الخفية ولكنه خلو من صورة كنيسة القديس بطرس أو تياترو الكولوسيوم أو شلال (ترنى) أو خليج نابلي ولا يرى به واحدة من نهر ثلجي أو بركان.