للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

(كتبت هذه الرسالة في قرطبة سنة ست وأربعين وثلاثمائة من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم بدار كتب سيدي الحكم بن أمير المؤمنين وولي عهد المسلمين حفظه الله وأعز به العلم والدين) (وسأستوعب لك في هذه الرسالة جميع ما رأيت وشاهدت وسمعت وأخذته عيني ولقفته أذني مدى الأيام التي قضيتها ي حضرة بلاد الأندلس منذ قدومي إليها سنة خمس وأربعين وثلاثمائة إلى اليوم الذي وضعت فيه هذه الرسالة من سنة ست وأربعين وثلاثمائة الموافقة سنة سبع وخمسين وتسعمائة من ميلاد السيد المسيح صلوات الله عليه)

قدومي إلى قرطبة

كان وصولنا إلى قرطبة في ذلك الموكب الفخم النبيل الذي قام بنا من المرية وفيه أبوعلي القالي البغدادي وأبوعبد الله الصقلي الفيلسوف وأمير البحر الأكبر عبد الرحمن بن رماحس الذي أمره - كان - سيدي الحكم بأن يتلقانا في المرية ويجيء معنا إلى قرطبة في جماعة من أعيان الأندلس وأدبائها وقوادها - عصر يوم الخميس السادس والعشرين من رمضان فكانت الليلة ليلة القدر، ومن ثم حثثنا السير، ودخلنا قرطبة من بابها القبلي مما يلي ضفة نهر الوادي الكبير، وقصدنا تواً إلى أحد قصور الإمارة، وهوالقصر الذي أمر سيدي ولي العهد بإعداده لنا، فنزلنا به وألقينا عصا التسيار وما كدنا نضع أمتعتنا حتى شخصنا إلى الجامع الأعظم - جامع قرطبة.

ليلة القدر في جامع قرطبة

قصدنا إلى الجامع الأعظم منشرحي الصدر، لحضور ليلة القدر. والجامع قدس الله بقعته ومكانه، وثبت أساسه وأركانه، قد كسي ببردة الإزدهاء، وحل في معرض البهاء، كأن شرفاته فلول من سنان، أوأشر من أسنان، وكأنما ضربت على سمائه كلل، أوخلعت على أرجائه حلل، وكأن الشمس خلفت فيه ضيائها، ونسجت على أقطاره أفياءها، فترى نهارا قد أحدق به ليل، كما أحدق بربوة سيل، ليل دامس، ونهار شامس، وللذبال تألق كنضنضة الحيات، أوإشارة السبابات في التحيات، قد أترعت من السليط كؤوسها، ووصلت بمحاجم الحديد رؤوسها، ونيطت بسلاسل كالجذوع القائمة، أوكالثعابين العائمة، عصبت بها أتفاح من الصفر، كاللقاح الصفر، بولغ في صقلها وجلائها، حتى بهرت بحسنها ولألائها، كأنها جليت باللهب وأشربت ماء الذهب، إذ سمتها طولا رأيت منها سبائك عسجد، أوقلائد