للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

لعلنا نسمع هتاف من عساهم يكونون قد أفلتوا من مخالب المنون ولكن الصمت كان شاملا، ولم تر أبصارهم ولم تسمع أذاننا من أثر منهم ولا خبر.

ولا أنكر أن هذه الأقاصيص أودت بلذيذ تصوراتي مدة من الزمن. واشتدت العاصفة على امتداد الليل وضربت الزوبعة غوارب الموج بأصوات الرياح فبددت وئامه. وشوشت نظامه.

وكان يسمع بتكسر الموج وتدفع الأذى صوت مخوف موحش. وتجاوبت من اللجج الأعماق. وتراءت الأنواء بالآفاق. وخيل إلينا في الأحايين أن سود السحائب فوقنا كانت تتصدع بصوارم البارقات الخفاقة على رؤوس الموج المزبدة الراغية فتضيء لحظة ثم تترك الظلمة التالية أرهب وأخوف وتداعت زماجر الرعود فوق قفار المياه الموحشة فأجابتها الأصداء من غيران الجبال بما أطال صوت زئيرها ومد في شأو هديرها.

ولما نظرت إلى سفينتنا تترنح وتتعثر بين هذه الحومات المتفجرة وكهوف الماء الضجاجة المزمجرة، خيل إلي أن تماسكها وسط هذه الزعارع وتوازنها بين هذه الزلازل كان حقا أحد المعجزات الخارقة. وكانت ربما انغمست رواجعهاو اندفن مقدمها تحت أطباق الموج وأحيانا كانت تشرمن فوقها اللجة فتهم أن تتلمسها لولا حركة حاذقة من الدفة تقيها الهجمة الهائلة والصدمة الغائلة.

ومازال ذلك المنظر المخوف يتشبه لي ويتراءى حتى بعد ما عدت إلى حجرتي وقد جعل حفيف الريح خلال الجبال يرن في آذاني كعويل المآتم. وما كان أشنع صريع الأدقال وأنين الحواجز وضجيجها إذ المركب يكدح في عباب اليم المتقلب وكان يخيل إلي والموج على جنبات المركب يتمطر وهديره في آذنه يضج ويزأر كأنما الموت ذاته يدور ثائرا حنقا حول ذلك السجن العائم يتلمس فريسته فلو إن مسمار ند عن مغرزه أو انفجر ما بين لوحين من ألواحها الملتئمة لا نفتح بذلك الباب لوافد المنية فأخلى ما بينه وما بين الضجة. ولكن لما طلع علينا الغد بالصحو الجميل ولانت سورة البحر وخيمت عليه السكينة وهبت الريح رخاء مؤاتية بدد هذا الصفاء ما كان قد استحوذ على نفسي من تلك الخواطر الحزينة.

ولا غرو فإن المرء لا يسعه إلا أن يلين رقة ويصبو طربا إلى محاسن الصحو الجميل و