للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

السياسة يضطر أحدهما إلى الغموض لحاجة من حاجات السياسة فيسلك من سبل التفهيم أطولها وأوعرها كي لا يفهم رسالته من أرسلت إليه كل الفهم أو كي يفهم في أثناء سطورها ما ليس فيها ألم تر كيف عمد ساسة الدول الأوروبية إلى اللفظ المبهم والعبارة الغامضة في بعض الأحايين كأن يريد أحدهم أن يعد وعداً لا يستطيع أن يفي به أو أن يساق إلى إيضاح أمر من حاجة السياسة أن يبقى غامضاً أو أن يريد أن يستخدم المغالطة كي يغطي على صحة رأيك أو أن يخدعك في حق تطالبه به فأسلوب الجاحظ وابن المقفع من هذا الوجه أفصح من أسلوب الصابي وابن العميد وأسلوب الأولين أشبه بلهجة العرب وفصاحتهم فهو خليق أن يسمى الأسلوب الطبيعي أما أسلوب الصابي فهو أسلوب صنعة لأن الفصاحة العربية الصريحة التي تطالعك من مصنفات الجاحظ وابن المقفع قد نضب ماؤها وصار حظ الأديب أن يتكلفها وسبب ذلك اقتعاد الأعاجم دسوت الرئاسة وتغلبهم على العنصر العربي والعصبية العربية في دولة الإسلام فلم تكن اللغة كالماء الآجن لأن الأساليب تتغير فأسلوب الجاحظ غير أسلوب الصابي وأسلوب الصابي غير أسلوب صاحب كتاب قلائد العقيان فالأساليب تسير مع الأيام وتتغير بتغير الزمان والمكان واللغة ليست ملكاً لقوم دون قوم فإن الفرق بين أسلوب الصابي وأسلوب الجاحظ أو بين أسلوب الصابي وأسلوب صاحب القلائد لا يجوز لنا أن نسميه فرقاً بين لغة ولغة كما يزعم زاعم يريد أن تكون لغة مصر غير لغة الشام أو العراق.

إنك إذا قرأت رسائل الصابي كنت كلما انتهيت من جملة نسيت أولها أما لعظم ما بين أولها وآخرها وأما لأنه يدخل الجملة في الجملة ويخرجها من حيث أدخلها فلا تعرف أين يبتدئ وأين ينتهي وألفاظ الصابي أكثر من معانيه فهو يريق المعنى على فناء واسع من اللفظ فيغيض ماؤه والمعاني كالبخار إذا حبست البخار زدته قسوة وإذا أفسحت له في الفضاء أضعفته. إذا أجاد الصابي ذقت في كلامه حلاوة الصنع وإذا أجاد الجاحظ ذقت في كلامه حلاوة الطبع على أن للطبع صنعة ولكنها صنعة ذوق وسليقة لا صنعة رصف وتنميق وصنعة الطبع ليست بأقل حلاوة من صنعة الرصف والذي يستخدم صنعة الرصف لا يسلم من التكلفة والفساد والإطالة المقبوحة وإضلال المراد وذكر مالا يراد منه كأن يسلك أديب في عقد واحد جملاً كثيرة لا تقرب القارئ من طلبته قيد فتر أو أن يكيل كاتب لقارئه من