إن بين من يكلف بالفصاحة ومن يتكلفها فرقاً واسعاً والجاحظ كلف بالفصاحة ولا يتكلفها لأنها تؤاتيه إذا شاء والصابي كلف بالفصاحة ولكنه قد يتكلفها ولا أحسب سبب ذلك أنه جاء بعد الجاحظ ولكن مذهبه إدخال الجملة في الجملة ومط الكلام كما تمط الجلد هذا ابن رشيق صاحب كتاب العمدة متأخر من المتأخرين في الزمن ولكن مذهبه في كتاب العمدة أشبه بمذهب ابن المقفع والجاحظ والمبرد وابن قتيبة وغيرهم من الفحول من حيث السلاسة وتوفية المعنى نصيبه من اللفظ وقصر اللفظ عليه وانتظام جمل الكلام ففصاحته فصاحة ذوق وطبع لا فصاحة رصف ووضع فلو أن الأديب ليس له بد من عبارة أهل زمانه وبلده وأسلوبهم في الكتابة لكانت عبارة كتاب العمدة مثل عبارة كتاب القلائد ولكنها ليست كذلك فإن فصاحة كتاب قلائد العقيان فصاحة رصف ووضع وهي أكثر سبهاً بفصاحة الصابي وابن العميد والثعالبي منها بفصاحة الجاحظ وابن قتيبة وابن رشيق ولكنها أكثر تصنعاً من فصاحة الصابي واقل حلاوة فعبارة الصابي في منزلة بين أسلوب الجاحظ وابن المقفع وأسلوب القلائد فالصابي وابن العميد والثعالبي كانوا يملكون من عنان مطيتهم ما لم يملكه صاحب القلائد ومن حذا حذوه وهكذا كل من عالج صنعة الرصف والوضع خيف عليه أن تغيب عنه حلاوة الطبع.
كان ابن رشيق ينقم من أهل زمانه صنعة الرصف ويغريهم باستخدام صنعة الذوق والطبع استدناء للفصاحة العربية وتطلباً لذلك الأسلوب الطبيعي أسلوب ابن المقفع والجاحظ وابن قتيبة ويزجرهم عن ذلك الأسلوب المتقطع المتكلف المخنث أسلوب السجع والمترادف والبديع الذي كانت تملأ به الأدباء رسائلهم من رصف وإطالة يضل القاريء فيها ما ينبغي من المعنى ولكن هذا الفساد كان قد تمكن من اللغة وأخذ من أذواق الناس مأخذاً بليغاً فلم يكن لأبن رشيق عون على إصلاحه وأعظم من استخدام صناعة الرصف والوضع من الأدباء وغالى بها الصابي وابن العميد والثعالبي فكانوا يجيئون بالجزل الجيد من الكلام وكان لكلامهم نصيب من بداوة النثر أي سلامته من الكلفة ورجولته تلك البداوة التي تطالعك من مصنفات ابن المقفع والجاحظ والمبرد وغيرهم من الفحول ولكن لم يكن يعرف الصابي وذووا مذهبه أن سيأتي بعدهم أدباء ينهجون نهجهم وليس لهم من سلامة الطبع