للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الذكر غامضى الشأن - أناساً ذوي مناقب جليلة وصفات كبيرة ينتظرون من حيث لا يشعرن اليوم الذي يشاد فيه بذكرهم ويطير في الآفاق صيتهم ويرتفع إلى عنان السماء صوتهم وما ذلك ببعيد وكأنما كانت وثنياتهم قد وصلت إلى طور الاضمحلال وآذنت بالسقوط وقد حدثت بينهم دواعي اختلاط وفوران وكان قد بلغهم على مدى القرون غوامض أنباء عن أكبر حادثة وقعت على وجه البسيطة - أعني حياة المسيح ووفاته وهي التي أحدثت انقلاباً هائلاً في جميع سكان العالم - فلم تعدم هذه الأنباء تأثيرها من الفوران في أحشاء الأمة العربية.

وكان بين هؤلاء العرب التي تلك حالهم أن ولد محمد (عليه السلام) عام ٥٨٠ ميلادية وكان من أسرة هاشم من قبيلة قريش وقد مات أبوه عقب مولده ولما بلغ عمره ستة أعوام توفيت أمه - وكان لها شهرة بالجمال والفضل والعقل فقام عليه جده شيخ كان قد ناهز المائة من عمره وكان صالحاً باراً وكان ابنه عبد الله أحب أولاده إليه فأبصرت عينه الهرمة في محمد صورة عبد الله فأحب اليتيم الصغير بملء قلبه وكان يقول ينبغي أن يحسن القيام على ذلك الصبي الجميل الذي قد فاق سائر الأسرة والقبيلة حسناً وفضلاً ولما حضرت الشيخ الوفاة والغلام لم يتجاوز العامين عهد به إلى أبي طالب أكبر أعمامه رأس الأسرة بعده فرباه عمه - وكان رجلاً عاقلاً كما يشهد بذلك كل دليل - على أحسن نظام عربي.

ولما شب محمد وترعرع صار يصحب عمه في أسفار تجارية وما أشبه وفي الثامنة عشرة من عمره نراه فارساً مقاتلاً يتبع عمه في الحروب غير أن أهم أسفاره ربما كان ذاك الذي حدث قبل هذا التاريخ ببضع سنين - رحلة إلى مشارف الشام إذ وجد الفتى نفسه هنالك في عالم جديد إزاء مسألة أجنبية عظيمة الأهمية جداً في نظره - أعني الديانة المسيحية وإني لست أدري ماذا أقول عن ذلك الراهب سرجياس (بَحيرا) الذي يذعم أن أبا طالب ومحمداً سكنا معه في دار ولا ماذا عساه يتعلمه غلام في هذه السن الصغيرة من أي راهب ما فإن محمداً لم يكن يتجاوز إذ ذاك الرابعة عشرة ولم يكن يعرف إلا لغته ولا شك أن كثيراً من أحوال الشام ومشاهدها لم يك في نظره إلا خليطاً مشوشاً من أشياء ينكرها ولا يفهمها ولكن الغلام كان له عينان ثاقبتان ولا بد من أن يكون قد انطبع على لوح فؤاده