أمور وشؤون فأقامت في ثنايا ضميره ولو غير مفهومة ريثما ينضجها له كر الغداة ومر العشى ونحلها له يد الزمن يوماً ما فتخرج منها آراء وعقائد ونظرات نافذات فلعل هذه الرحل الشامية كانت لمحمد أوائل خير كثير وفوائد جمة.
ثم لا ننسى شيئاً آخر وهو أنه لم يتلق دروساً على أستاذ أبداً وكانت صناعة الخط حديثة العهد إذ ذاك في بلاد العرب ويظهر لي أن الحقيقة هي أن محمداً لم يكن يعرف الخط والقراءة وكل ما تعلم هو عيشة الصحراء وأحوالها وكل ما وفق إلى معرفته هو ما أمكنه أن يشاهد بعينيه ويتلقى بفؤاده من هذا الكون العديم النهاية وعجيب وأيم الله أمية محمد نعم إنه لم يعرف من العالم ولا من علومه إلا ما تيسر له أن يبصره بنفسه أو يصل إلى سمعه في ظلمات صحراء العرب ولم يضره ولم يزر به أنه لم يعرف علوم العالم لا قديمها ولا حديثها لأنه كان بنفسه غنياً عن كل ذلك ولم يقتبس محمد من نور أي إنسان آخر ولم يغترف من مناهل غيره ولم يك في جميع أشباهه من الأنبياء والعظماء - أولئك الذين أشبههم بالمصابيح الهادئة في ظلمات الدهور - من كان بين محمد وبينه أدنى صلة وإنما نشأ وعاش وحده في أحشاء الصحراء ونما هنالك وحده بين الطبيعة وبين أفكاره.
ولوحظ عليه منذ فتائه أنه كان شاباً مفكراً وقد سماه رفقاؤه الأمين - رجل الصدق والوفاء - الصدق في أفعاله وأقواله وأفكاره وقد لا حظوا أن ما من كلمة تخرج من فيه إلا وفيها حكمة بليغة وإني لأعرف عنه أنه كان كثير الصمت يسكت حيث لا موجب للكلام فإذا نطق فما شئت من لب وفضل وإخلاص وحكمة لا يتناول غرضاً فيتركه إلا وقد أنار شبهته وكشف ظلمته وإبان حجته واستثار دفينته وهكذا يكون الكلام وإلا فلا وقد رأيناه طول حياته رجلاً راسخ المبدأ صارم العزم بعيد الهم كريماً برا رؤوفاً تقياً فاضلاً حراً - رجلاً شديد الجد مخلصاً وهو مع ذلك سهل الجانب لين العريكة جم البشر والطلاقة حميد العشرة حلو الإيناس بل ربما مازح وداعب وكان على العموم تضيء وجهه ابتسامة مشرقة من فؤاد صادق لأن من الناس من تكون ابتسامته كاذبة ككذب أعماله وأحواله - هؤلاء لا يستطيعون أن يبتسموا وكان محمد جميل الوجه وضي الطلعة حسن القامة زاهي اللون له عينان سوداوان تتلألآن وإني لأحب في جبينه ذلك العرق الذي كان ينتفخ ويسود في حال غضبه (كالعرق المقوس الوارد في قصة القفازة الحمراء لوالترسكوت) وكان هذا العرق