للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

صورها ثم أنت لا تعرفها من كلامه إلا في صورها فكأنه ناسب بين قوتها وضعفك بصناعته وسحره إذ يمازجها بخيال قوي كالعقل يوازن ضعفك وحقيقة ضعيفة كالقلب توازن قوتها. وهو لا يتسلط على طبيعتها إلا بتصوره ولا يستهوي طبيعتك إلا بقدرته على ضبط النسبة بينك وبينها.

فالبلغاء هم أرواح الأديان والشرائع والعادات وهم ألسنة السماء والأرض، وإذا شهد عصر من العصور أمة ليس فيها بليغ فذلك هو العصر الذي يكون تاريخاً صحيحاً لأضعف طبائع الأمم.

وكتبت هذه المقالة وبحسبي منها أن يكون عند الحقيقة ذخرها، وعند الجمال شكرها، وعند الله أجرها.

وهذه نبذة من الفصل الأول.

أيها القمر

الآن وقد أظلم الليل وبدأت النجوم تنضح وجه الطبيعة التي أعيت من طول ما انبعثت في النهار رشاش من النور والندى يتحدر قطرات دقيقة منتشرة كأنها أنفاس تتثاءب بها الأمواج المستيقظة في بحر النسيان الذي تجري فيه السفن الكبيرة من قلوب عشاق مهجورين برحت بهم الآلام، والزوارق الصغيرة من قلوب أطفال مساكين تنتزعها منهم الأحلام، تلك تحمل إلى الغيب تعباً وترحاً، وهذه لعباً وفرحاً، والغيب كسجل أسماء الموتى تختلف فيه الألقاب، وتتباين الأحساب والأنساب، وتتنافر معاني الشيب من معاني الشباب، وهو يعجب من الذين يسمونه بغير اسمه ولا يعلمون أنه كتاب في تاريخ عصر من عصور التراب.

والآن وقد بدأت الطبيعة تتنهد كأنها تنفس بعض أكدارها، أو هي يملي في الكتاب الأسود أخبار نهارها، وبدأ قلبي يتنفس معها كأنه ليس منها قطعة صغرى، بل طبيعة أخرى، ولله ما أكبر قلباً يسع الحب من قبلة اللقاء إلى ذكراها، ومن حياة الصبي الأولى إلى ما يكون من الجنة أو النار في أخراها، إن هذا لهو القلب الذي ترى فيه الطبيعة كتاب دينها المقدس. فإذا لحق العاشق الذي يحمله بربه تناولته وهي جاثية كأنها في صلاة الحزن ثم قبلته متلهفة ثم قلبته متخشعة ثم أودعته في مكتبة الأبد لأنه تاريخ قلب آخر بل هو جزء