للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

من الموسوعات الكبرى التي يدن فيها الدهر تاريخ النفس الإنسانية على ترتيب بعينه تعلم الناس منه أن يبدؤا لغاتهم جميعاً بحرف (الألف) لا لأنه من أقصى الحلق. . . بل لأنه من أقصى القلب، بل لأنه من أقصى التاريخ، بل لأنه أول اسم (آدم) ذلك العلم الأول في تاريخ الحب.

والآن وقد رقت صفحة السماء رقة المنديل، أبلته قبل العاشق في بعاد طويل، أو هجر غير جميل، وتلألأت النجوم كالابتسام الحائر على شفتي الحسناء البخيلة حيرة القطرة من الندى إذ تلمع في نور الضحى بين ورقتين من الورد. وأقبل الفضاء يشرق من أحد جوانبه كالقلب الحزين حين ينبع فيه الأمل. ومرت النسمات بليلة كأنها قطع رقيقة تناثرت في الهواء من غمامة ممزقة. وأقبلت كل نفس شجية ترسل آمالها إلى نفس أخرى كان الآمال بينهما أحلام اليقظة. ونظر الحزين في نفسه. والعاشق فيقلبه. ونام قوم قد خلت جنوبهم فليس لهم نفوس ولا قلوب. ولبس السكون تاجه العظيم فأشرق عليه القمر.

والآن وقد لمعت أيها القمر لتملأ الدنيا أحلاماً وتتشرف على الأرض كأنك روح النهار الميت ما ينفك يتلمس جوانب السماء حتى يجد منها منفذاً فيغيب. فهلم أبثك نجواي أيها الروح المعذب وأطرح من أشعتك على قلبي لعلي أتبين منبع الدمعة التي فيه فأنزفها، إن روحي لا تزال في مذهب الحس كأنها تجهش للبكاء ما دامت هذه الدمعة فيه تجيش وتبتدر. ولكن إذا أنا سفحتها وتعلقت بأشعتك الطويلة المسترسلة كأنها معنى غزلي يحمله النظر الفاتر فلا تلقها على الأرض أيها القمر فإن الأرض لا تقدس البكاء وكل دموع الناس لا تبل ظمأ النسيان ولو انحدرت كالسيل يدفع بعضها بعضاً.

أرأيت أيها القمر هذا النهر الصافي الذي يجري كأنه دموع السحر من أجفان هاروت وماروت، ويطرد بجملته كأنه قطعة من السماء هاربة في الأرض وهل تبصر في شاطئه تلك الشجرة الناضرة الممتلئة بالأوراق كأنها مكتبة يتصفحها الهواء. هذه هي مثال الفلسفة الطبيعية فكل حكيم لا ينبت على شاطئ الدموع الشريفة فهو فيلسوف جافٌّ كأنه مصنوع من جلود الكتب وما دمعتي إلا النهر الذي نبت في شاطئه وهي أطهر شيء وأصفاه لأنها مخلوقة من ثلاثة عناصر تقابل العناصر السماوية. من الحب الذي يقابل عنصر النار ومن اللين الذي يقابل عنصر الهواء ومن البكاء الذي يقابل عنصر الماء.