للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

ليس كل من عصر عينيه فقد بكي. إن البكاء لأشرف من ذلك وكما يكون الضحك أحياناً حركةً في الأفواه تبعثها العادة كحركة الحواس الغليظة فيضحك المرء وقلبه صامت. كذلك يكون من البكاء ما هو حلم الأسي. لأن في العين حاسة لا بد من تمرينها أحياناً تسمى حاسة الدموع.

وما أن لقيت باكياً إلا رأيت وجهه مقبلاً علي كأنه يسألني: ترى من أين يذبح الإنسان إذا كانت دموعه هي دماء روحه؟ ذلك لأن الدموع لم تعد على طبيعتها دموعاً بل هي علامات الألم أو السخط. الألم من المخلوق والسخط على الخالق فهي ألفاظ من لغة العجز قد تكون أفصح منها في الأداء كلمات السفاه والغيظ والحنق وما إليها.

ولكن الباكي بها لا يجد من قوة الجراءة ما يرفع صوته من حفرة الحلق التي لا تمتلئ مع أن نفس الحر تئد فيها كل يوم ألفاظاً كثيرة من عبارات الذل والتمليق فلا ينطق بها. وتئد فيها نفس الذليل كل ألفاظ الإباء والأنفة فلا ينطق بواحدة منها. وذلك لعجز الباكي ولضعف إحساسه بالذل السياسي أو لضعف قلبه بالتقوى التاريخية فيرفع صوت روحه وهي تتكلم من العين بهذه المعاني السائلة التي نسميها الدموع.

أريد أن ابكي بكائي الطبيعي أيها القمر لأنه يخيل إليّ أن حقائق كثيرة تغتسل بدموعي. وإني لا أكون في حاجة إلى البكاء إلا حين تكون هي في حاجة إلى الدموع. ولقد شعرت مراراً بحركة عقلي في تصفح الأسفار، واضطراب نفسي في متاحف الآثار. واختلاج قلبي في معابد الطبيعة التي قامت الجبال في بنائها لأنها أحجار، فما أفدت من كل ذلك ما أفدته من دمعة تفور في صبيبها كأنها روح عاشق يطاردها الموت بين يدي حبيبها، فإن في هذه الدمعة ثواب كل آلامي، ويقظة كل الحقائق من أحلامي.

للحديث بقية.