للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

الكتب ترى فيها الفضائل والرذائل مرصوفة مرتبة لا تعدو واحدة مكانها ولا تتجاوزه إلى سواه، وإنما هي ميدان لتلاقيها وتلاحمها، وعالم صغير تقضادم فيه الغرائز والملكات وتقتتل على الحياة والبقاء كما يحترب الناس في هذا العالم الكبير ويتنازعون البقاء فيما بينهم، وبحر تتسرب فيه الطبائع بعضها في خلال بعض كما تتسرب الموجة من الماء في خلال الموجة وتغيب في أثنائها.

وفي الحقيقة أن كتاب العرب ومؤرخيهم قصروا أشد التقصير وأسوأه في ترجمة شعرائهم وكتابهم وعلمائهم وعظماء رجالهم، ولم ينصبوا أنفسهم في هذا المعنى على كثرة ما ألفوا وصنفوا، ولا جؤا بشيء يضارع ما عدا أمم الفرنج منه، وإنك لتقرأ لأحدهم السفر الضخم ذا الأجزاء العديدة والحواشي والتعاليق، وتعاني في تصفحه من البرح والعنت ما تعاني، ثم لا تظفر إلا بأشياء لا تستحق ما عالجت في سبيلها من الشدة، وبذلت من الجهد وأنفقت في طلبها من الساعات والأيام، وقصص وأخبار لا تجد عليها طابع العقل وميسم التفكير، كأن لم يكتبها إنسان وهبه الله عقلاً وفهما. وفؤاداً ذكياً. وذهناً يتفكر. وقلباً يتدبر. أو كأنما كانوا يكتبونها وهم رقود.

لسنا نقصد إلى تنقص مؤرخي العرب والتسميع بهم، والوقوع فيهم وتحقير شأنهم. أو إلى تفضيل مؤرخي الفرنج عليهم، والتنويه بمفاخرهم، فإن هذا مالا يخطر لنا ببال ولا يسنح في فكر، وعلى أننا بعد لو قصدنا إلى شيء من ذلك التفضيل لا تسع لنا فيه نطاق المعذرة، ولبرأنا عقلاء القوم من اللائمة، فإن مما لا يخفى على أحد له أدنى معرفة أن مؤرخي العرب لم ينظروا إلا إلى الدولة دون الأمة، وإلى الحكومة دون الشعب، ولم يعنوا إلا بذكر الفتوحات والحروب وتعاقب الولاة، واختلاف الحكام، ولم يفطنوا إلى عظمة الشعر وجلال الأدب فطنة الغربيين لذلك، وهذه أسفارهم فليراجعها من شاء إن كان في شك مما نقول وليحكم عقله وليتجرد من الهوى، فإنه لا بد صادر عنها بآماله، وراجع بالخيبة وحبوط المسعى، ولعل للعرب بعد عذراً من زمانهم وأحوال أيامهم ونحن نلوم. . .

الإنسان وجهة الإنسان وموضع عنايته، وليس أدل على مدنيته واستئناسه من حبه للترجمة والتاريخ ولكفه بهما، على الرغم مما يدلي به لرد ذلك ودفعه، وأي شيء أحلى في القلب، وأثلج للنفس، وأشرح للصدر، من أن يساهم أحدنا شعور أخيه الإنسان، ويشاطره إحساسه،