ويتغلغل نظره إلى قلبه، ويحيط بحركات نفسه. ويقف على ما يضطرب به جنانه. ويدور في خاطره، ويجري في ذهنه. بل أي شيء ادعى إلى طرب العقل وأبعث على لذة الفكر ومتعة الذهن من أن ينظر أحدنا بعيني أخيه ويرى العالم كما هو باد في مرآة عينه؟
تلك لذة لا تعادلها لذة، ومتعة أنعم بها من متعة، فأما من تغيرت قلوبهم على البشر، واعتقدوا للنوع البغض والعداء، وطووا أحناء الصدور على الكراهية والمقت والاحتقار، فلعمري إن هذا لمظهر من مظاهر حبهم للنوع وإخلاصهم له، وغنما غلبت عليهم السوداء، واسودت الدنيا في عيونهم وتنكرت لهم فتنكروا لها لا للناس وإن خيل غير ذلك، ثم لم يدروا كيف يجازونها بغضة ببغضة. ومقتاً بمقت، فانقلبوا على الناس إذ لم يصيبوا غيرهم ما يشفون منه غيظهم، فهم صديق في ثياب عدو!
قلنا أن من أظهر الأشياء في الإنسان حبه للتأريخ والترجمة وكلفه بهما وأنا لا نعرف معنى أجمع لصفات المدنية، ولا أدل على جماع الإنسانية من ميل المرء إلى ذلك، وتقليبه وجوه الرأي له، وتصريفه أعنة الفكر فيه، ونقول أن هذا الميل مركب في السلائق، ومركوز في الطبائع، وإن كل إنسان مؤرخ ببعض الاعتبارات. فإن أردت دليلاً على ذلك فانظر في من حولك وتدبر ما يجري بينهم من الكلام في متحدثاتهم ومجالس سمرهم، أليس أكثر ما يرد على السمع منه حكايات وقصص وأنباء، فمن ناقل إليك ما ترامى إليه من الأخبار، ومن مسر إليك بذات نفسه وما لقيه من المحنة والبلاد. وكيف عدلت عنه الأيام، ثم عطفت عليه،
وبينا نعمة إذ حال بؤس ... وبؤس إذ تعقبه ثراء
* * *
ومن ولجد قد ألزم القلب كفه ... ومن طرب يعلو اليفاع ويشرف
ومستعبر قد أتبع الدمع زفرة ... تكاد لها عوج الضلوع تثقف
ومن لعب مجان يتداعب على الناس ويركبهم بالهزل والمزاح. ويروي لك النادرة المضحكة إثر الطريفة المستملحة، إلى آخر ذلك مما لا حاجة بنا إلى الإفاضة فيه، ثم تأمل الشعر، أليس شعوراً مترجماً، وقصة مروية، وخاطراً مجلواً؟، والعلوم بأنواعها، أليست مجموعة تجارب فهو أيضاً تاريخ للعقل الإنساني! وهل الحياة إلا قصة طويلة يمثل كل