الدليل عليه، ولا معرفة إلا وهو مفتاحها، ولا حقيقة إلا وهو مصباحها، ولكنه أخطأ السبيل إلى هذه الغاية، وذهب في مذاهب لا تؤدي إلى هذا العلم، وطرق لا تفضي إلى هذه المعرفة، وما أضله إلا حسبانه أن الإنسان ليس مظهراً من مظاهر قوة بعينها. ولكنه فرد قائم بذاته، وروح مستقلة بنفسها، منفردة عما عداها، فهو أبداً يحاول أن يفض ختم هذا السر الإنساني بأن يتدبر ما يجري في ذهنه، ويتوسم ما يحصل في نفسه، ويحلل المعرفة إلى أصولها، ويضع لكل شيء حداً، وما فاز من ذلك بشيء، ولا عاد بالخيبة والخذلان. وبقيت الحقيقة عنه مستورة، واستولى الخفاء عليها، واستمر السرار بها، حتى فطن الناس إلى هذا الغلط الذي دخل عليه، والرأي الفاسد الذي عنّ له بسوء الاتفاق حتى صار حجازاً بينه وبين العلم بها، وسداً دون أن يصل إليها،
الإنسان ليس فرداً قائماً بنفسه، كاملاً في ذاته، وإنما هو واحد من عشيرة، وعضو من فصيلة، لا يتأتى العلم به، والوقوف على أمره إلا بالقياس إلى أنداده وأشباهه من الناس، وقديماً حسب الناس الأرض جسماً منعزلاً لا نظير له ولا شبيه، فركبهم في أمرها جهل عظيم، وخطأ فاحش. وسبقت إلى نفوسهم اعتقادات بأن فسادها لما وضح للناس أنها كوكب كبقية الكواكب وكذلك يختلف اليوم رأينا في الإنسان عن رأي آبائنا فيه فقد كانت كل أمة تمتهن ما عداها من الأمم وخلاها من الشعوب، وتزدريها وتستخف بها ولا تعدها إلا في الهمج والبربر، ونحن نرى فيها اليوم إخواناً صدعت شملهم البحار، وفرقتهم اللغات وقطعت بينهم العداوات. . . لهذا يعكف أحدنا على تاريخ آبائه وأجداده فيقرأ في صفحاته آيات الحكمة الإلهية، ويعبر في سطوره مظاهر القوة الإنسانية، واجداً من الروح والخفة والأنس في مطالعة أخبار القرون الخالية والأجيال الماضية ما لا يجده في أخبار العصر الحاضر. . . وكما أن أحدنا إذ تلقى في يده الصدفة شيئاً من رسائله القديمة المهجورة يقلبها بادئ الأمر وهو غير حافل بها ولا ملتفت إليها. ثم لا يلبث أن يعتاده الذكر. ويلهيه ماضيه عن حاضره فيترسل في قراءتها بعد العجلة، ويتمهل بعد المسارعة، ويقف على كل حرف، ويستخبر كل لفظ، كأنما يستبعد أن يكون هذا خطه، وتلك مقاطر قلمه ومراعف مرقمه ولا يصدق أن هذه الأيام مرت به، وتلك الهموم والمسرات وردت عليه، ثم تنزاح عن الماضي حجب الغموض، وتنتفي عنه معتلجات الشكوك، فتدب في جسمه روح الشباب