الناس عن الناس أفهم، وإليهم أصبي وأسكن، وبهم آنس وأشغف،
وليس معنى هذا أن الشيء لا يروقك، ويقع من قلبك، إلا إذا كان صانعه آدمياً، فإن هذا ما لا نذهب إليه، أو ن قول به، وإنما نعني أن الإنسان حبيب إلى الإنسان، وأن أكثر ما يفتنه ويستولي عل لبه وهواه، ما كان عن الإنسان صدره، وما تبين عليه ميسمه وأثره، وهذا ملموح فيكل حركة، وملحوظ فيكل لفظة، وما تأملت قط هذا الأمر إلا أثار لي التأمل، واستخرج لي التفرس، غرائب لم أعرفها، وعجائب لم أقف عليها، وإلا استيقنت أن الأمر كما ذكرت، والحال على ما وصفت، وأن الإنسان لا تزال يتلمس الإنسان ويحاول أن يجتليه في كل شيء كأنما هو يستوحش الشيء إذا أحس أنه منه خلاء، ولو لم يكن الأمر كذلك ما كان الإنسان إنساناً، ولا كان على الدنيا طلاوة، ولا للحياة رونق وحلاوة، ولعمري هل تروقنا الأرض إلا لأنها سكننا ومثوانا، ومراحنا ومغدانا، وهل يملأ الروض عين من نظر إلا إذا أحس أن رياحينه تحييه، وحمامه يغنيه ويلهيه. وغصونه توسوس إليه، ولعمري كيف الحياة وماذا العيش إذ أنت حرمتنا هذا الإحساس الحلو والأنانية اللذيذة، وسلبتنا هذا الخلق الإنساني، والغريزية التاريخية، وذلك أصل الدين، وأصل الشعر، وأصل العلم. . .
وبعد فأي شيء يدفع الناس إلى إنفاق الوقت على طلب التاريخ. واستنزاف الأيام في معاناته، والتوجه إلى تعلم اللغات الدارسة، والانقطاع لحل الرموز الهيروغليفية مثلاً وإيضاح مشكلها: والكشف عن معانيها. وماذا يحمل الناس على الغوص على آداب العرب والفرس والهند واليونان والرومان، ولماذا يستنفذون الطاقة كلها ويعنون بترجمة هذه الآداب من لغة إلى لغة، أو ليس حسب كل أمة ما عندها من ذلك؟ وما هو السر في أن أساطير الأمم القديمة وقصص البربر والهمج ربما كانت أخلب لللب وأغتن للنفس وأسحر للعقل من فلسفة أفلاطون وكانت وغيرهما؟ وماذا يحتث الناس ويسوقهم إلى هذا الكد والتصرف؟ أليس هو أن المرء ينبغي أن يعرف كيف كان الإنسان في العصر الحالي ليعرف أي شيء هو؟؟
يرى سقراط. ورأيه الحق، أن غاية الفلسفة أن يحيط المرء بنفسه. وأن ذلك أحق بالتقديم، وأسبق في استيجاب التعظيم، وأنه لا عرفان إلا وذلك هو السبيل إليه، ولا علم إلا وهو