للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وإننا نقدر على المسعدة متى رغبنا فيها. وإننا نباشر عملاً مفلحاً - والإفلاح في كل عمل يبعث إلى السرور والارتياح - هذا إذا قرن مسعانا بالنجاح.

وفوق ما تقدم فقد يعتقد أحدنا أنه يعين بهذه المسعدة على رفع حيف قد يكون هو ممن يشكون منه. فيزيده الحنق رغبة في تلك المسعدة.

من هذا كله. ومن دقائق أغمض منه. تتركب كلمة الشفقة. فما أكثر أصداء هذه الكلمة وما أقبح ما اختلطت كل هذه الأصداء في طيها!!

أما كون الشفقة صدى الحالة التي تثيرها. أو أنها ناشئة عن فهم تلك الحالة فهماً دقيقاً خاصاً. فذلك ما لا يقول به إلا شخص ناقص الخبرة. قليل الحنكة.

وهذا ما أوجب عندي الارتياب فيما عزاه شوبنهور إلى الشفقة من المزايا التي لا يصدقها العقل. وواضح أن هذا الظن هو ما حدا بشوبنهور إلى محاولة إقناعنا بهذا الابتكار الرائع الذي ابتدعه. وهو أن هذه الشفقة التي شوهها بتعريفه ووصفه وأبان بذلك أنه لم ينظر إليها إلا نظرة لا يتعدى ظاهرها - هي ينبوع الأخلاق ما تقدم منها وما تأخر. وإنها القطب الذي يدور عليه محور فعالها. ولولا أنه صدر بها عن ذلك الظن لما سولت له نفسه أن يتحدث بهذا الرأي.

وبعد فما هو الفرق بين القساوة وأولي الرحمة؟؟

أقول مع الإيجاز: كل ما هنالك أن أولئك لا يشعرون بالخوف شعور هؤلاء. وإن طبائعهم هادئة لا تتوجس كما يتوجس أصحاب الأمزجة القلقة، ثم إن غرورهم مطمئن ثابت فلا يغريهم بالتعرض لكل أمر يستطيعون منه كلما وقع شيء من ذلك بل هم يرون أنه أولى بكل إنسان أن يدير ورقه بيده في هذه اللعبة الدنيوية. وغير ذلك فهم أجلد على كظم بثهم وقمع عواطفهم من أصحاب العواطف اللينة. فإذا بصر أحدهم بمنظر يؤلمه كان أقدر على مداراة ألمه واحتماله. ولا يرى أحدهم من منافاة العدل في شيء أن يتعذب سواه ما دام هو يصبر على عذابه. وإنه ليرى من الألم في رقة القلب ما يراه أرقاء القلوب في الصبر على الآلام. وليس في معجمهم لهذا المرض مرض رقة القلب إلا كل مثلبة ومنقصة. لأنهم يعدونه خطراً على رجولتهم وشجاعتهم الساكنة. فهم يبكون وحدهم. ثم يمسحون دموعهم ولا يسخطون على أحد غير أنفسهم.