للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الحكم يسهل عليك احتقار ما قد تفرح به نفسك ويطرب له فؤادك من ثناء الجمهور عليك وإطراءه إياك وما هو ثناء الجمهور؟ إنه لعمري ليس فيه شيء يزيد كثيراً في قيمة المرء ومكانته وإنما يزيد المرء قيمةً بل يزيده زينة نفسه فتحرى ذلك في نفسك واستمد الثناء عليك والمكافأة لك منك.

الرسالة الثانية

(فيما ينبغي أن يصرف الحكيم فيه عنايته)

كتبت إلي تقول: تأمرني أن أعتزل الناس وأن أبقى بعيداً عنهم قانعاً بمسامرة ضميري راضياً بمناجاة وجداني فماذا أصنع إذاً بتعاليمك ونصائحك التي تحثني على أن لا أنقطع عن العمل حتى الممات؟ - أقول ما هذا الوهم أأنا في حالتي الراهنة بناء على اعتقادك هذا عاطل من العمل؟ إن الغاية الشريفة من عزلتي وانفرادي بمحض اختياري إنما هي لكي أتوفر على العمل الذي أنا بصدده حتى تعم فوائده الجمة الغفيرة من الناس حتى أني لأخصص شطراً من سواد الليل للعمل ولا آخذ راحتي من النوم إلا إذا غلبني النعاس وجعلت عيناي ما تبصران ما أمامي من القرطاس إلا بصعوبة وعياء منه وإني ما اعتزلت الناس وانقطعت عن الأشغال المادية حتى أشغالي الخاصة إلا لتوفر علي الأعمال العينية التي تفيد الأجيال القابلة فإني في الكتابات إنما أتحرى نفع هذه الأجيال وإفادتها ولها وحدها أدون النصائح والإرشادات المفيدة في مؤلفاتي عن تجربة وخبرة بالأيام مما أصابني من المحن والإرزاء التي وإن كانت لم تزل جراحها دامية إلا أنها قد التأمت وعرفت من التجاريم المنهج الواضح والصراط السوي في الحياة بعد أن ضللت سبيله ولحقني من متاعب الحياة ومغرراتها ما دفع بي إلى كشف الغطاء عنه للناس صائحاً فيهم (أيها الناس فروا من كل ما يخدع عوام الناس من حظوظ العالم ومظاهره التي تسوقها الحظوظ وتحاشوا خيرات عارية وسعادات باطلة وخذوا حذركم ولا تأملوا للأيام واعلموا أن مثلكم في الغرور كمثل الأسماك والظباء توضع لها الطعم في الشباك فتقع فيها فمنح الأيام ليست إلا مصائد للرجال فإذا أحببتم أن تعيشوا بسلام آمنين مطمئنين فلا تركنوا إلى متاع الدنيا الغرور وإلا أصابكم الفشل وبؤتم بالخسران والضلال المبين فأنا لعمرك أن يخيل إلينا أنا فيها الآخذون وما نحن إلا مأخوذون فزخرف الدنيا والانغماس في نعيمها ما هو إلا هوة