وكما أن الوردة لا يعييها أن تسطعك تفتحها، ويتثوّر إلى أنفك نسيمها، والجميل لا يشق عليه أن يتمثل لعينك حسنه، وترتسم في قلبك ملاحته، كذلك لا يرهق العظيم أن يسوغك من صفاته، ويضفى عليك مما أفاض الله عليه، وأسني له، وآثره به، ولكن ذلك لا يتهيأ حتى يكون بينه وبين الناس اتصال، وله إليهم انتساب وانتماء، وحتى يحس الناس أنهم واجدون عنده ما يحبون وبالغون منه ما يطلبون،. . فإن من الناس من يسدي إليك مالا حاجة بك إليه، أو يجيبك إلى ما لم تسأله، وهذا لا طائل وراءه، ولا ثمرة عنده، ولا خير فيه، وإنما العظيم من فطن إلى حاجة الناس فسدها، وأدرك مواضع الافتقار والضعف فراشها، ومن عرف موضعه وبلغ الناس ما في نفوسهم، وأمكنهم مما يطلبون. وليس يخطيء العظيم موضعه، أو يخفى عليه موقعه، لأنه كالنهر يحفر لنفسه مجراه، ويكوّن له ميلاً أينما تحدر، وأنت فإذا رجعت إلى نفسك ونظرت في تاريخ العصور التي ظهر فيها العظماء علمت علماً يأبي أن يكون للشك فيه نصيب، وللتوقف نحوك مذهب أن العظيم لا يظهر في عصر إلا إذا كانت الحاجة إليه ماسة، والافتقار إلى مثله شديداً، وأنه لو لم تلد آمنة محمداً صلى الله عليه وسلم لولده غيرها من نساء العرب، ولو لم يهرب شكسبير من بلده إلى لندره لنبغ من غيره هذا الشعر الذي تقرأ له اليوم، ولا يقنت أن العصر الواحد قد لا يسع أكثر من عظيم واحد، أو هو يسعه ويسع نقيضه في مذهبه، وعكسه في منزعه.
وكما أن النبات يحول معادن الأرض غذاء صالحاً للحيوان، كذلك العظيم يتناول الطبيعة فيستخدمها ويجيء الناس منها برجعة صالحة، والطبيعة إذا صادفت كفؤاً حقيقاً بها، ووالياً مطيقاً لها. وناهضاً مستقلاً بأعبائها أضفت عليه ملابسها، وكشفت له عن نفائسها، وأما علت عن سرها الحجب، ونقت عنه معتلج الريب، وكانت له رائداً فيما يطلب، وهادياً حيث يؤم ويذهب، فإنما تفضح الطبيعة عن مضمونها، وتظهر مكنونها، لمن تعرف فيه القدرة على فهمها وتوسعها من معاريض رموزها، واستشفافها من وراء لئامها. وتظن فيه الإيفاء في الوفاء. وتستشعر فيه الأبرار في الحفاظ، فإن دقائق الطبيعة وأسرارها، وخصائص معانيها، ليست مبذولة لكل أحد، ولا مذللة لكل من يبسط لها كفها، أو يرفع إليها طره، ولكن لمن إذاً ما نظر كان وما ينظر شيئاً أحداً، فإن الشيء لا يعرفه إلا شبيهه، ولا