للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

يحيط به إلا ضريبه أو ما فيه منه شناشن، كما يعرف الحديد الحديد ويجتذبه إليه، والإنسان من طينة الأرض فليس ينسى منبته. أو تختفي عليه طينته وجرثومته والطبيعة كتاب مطوى تعلن منه في كل عصر صحائف يتلوها على الناس أناس هدوا إليها، ودلوا عليها، وكشف لهم عنها، ورفعت الحجب بينهم وبينها، وكما أن الماء إذا بلغت حرارته المائة لم يزده إلحاح النار شيئاً، واستوي عند هذه الدرجة كل ماء، كذلك لعظمة الإنسان غاية ليس وراءها زيادة لمتزيد، ولا فوقها مرتقى لهمة، يستوي عندها كل من بلغها.

ترى في كل عصر ثلاثة من العظماء أو أربعة يحاولون أن يبلغوا هذه الغاية ويرتقوا إلى هذه النهاية، والناس من حولهم يرمونهم بعيونهم، ويتبعونهم بأبصارهم، وهم مجدون في الأصعاد، مندفعون في التوقل، لا يكترثون لم نظر ولا لمن لم ينظر، ولا يبالون بما يعترضهم في سبيلهم، حتى تتعاظم أحدهم عقبة فيَهِن، ويتعلل بأن لو كان على الجهد مزيد لبلغه، ويثبط الثاني تعاقب الموانع، وتواصل العقل، فينكل عما شمر له، والناس بين مبتئس له عاذر، وضاحك به ساخر، ويمضي الآخران حتى تكتنفهما السحب، ويغيبا عن عيون الناس، وترمقهما النسور، ثم يشتد البرد، ويعظم الخطب، وتثور الرياح، وتهيج العواصف، ويتوعر المرتقى، وتنصدع الأرض فيهوي أحدهما، والمجد خوان وغرار، وينطلق الآخر متخطياً رقاب الموانع، مذللاً ظهور العوائق، بين بروق السحاب ورعودها، وثورة العواصف وهجودها حتى ينتهي إلى الغاية، ويبلغ النهاية، فيصافح كونفوشيوس، وبوذا، وموسى، وعيسى، ومحمداً، وهومر، وشكسبير، وابن الرومي وغيرهم ممن لا حاجة بنا إلى حصرهم.

وهنا شبهة ضعيفة عسى أن يتعلق بها متعلق ممن لا ينظرون إلى أبعد من أنوفهم، ولا يفوتون أطراف بنانهم، وهي أن يدعي أني قد أسرفت في القول، وجاوزت الحد فيما زعمت من أن للعظمة غاية لا مزيد عليها، ولا متجاوز وراءها، وأن من بلغها من العظماء متكافئون في المزية لا فاضل بينهم ولا مفضول. وهي شبهة سائرة على الأفواه، وإنما دخل الغلط على الناس فيها من جهة حسبانهم أن العظمة تقاس كما تقاس الأرض طولاً وعرضاً وتحد كما تحد الدار شرقاً وغرباً، وخلطهم بين ما يحتمل النسبة والقياس وما لا يحتملهما، ونسيانهم أن الشاعر الفحل مثلاً لا يخمل أخاه الفحل، إذا أخمل العالم العالم، وأنه