للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

من ذلك أنه برغم ما رأيته يكاد يمزق قلوبهم من غلواء الوجد وبرحاء الكمد وبرغم زفرة لهم ترقي. وعبرة لهم لا ترقا. كانوا لا يستطيعون مطاوعة عقولهم على الماء تلك الأثقال عند ما بلغوا الكثيب. ولكنهم بعد قليل من المحاولة - محاولة المشاقل المتكرد - هزوا رؤوسهم ورجعوا بأثقالهم أشد ثقلاً. وأفدح حملاً. وأبصرت كثيراً من العجائز يلقين تغاضين وجوههن وكثيراً من الفتيات يلقين سمر جلودهن. ورأيت كوماً من أنوف حمراء. وأسنان قلحاء. وشفاه فلحاء. والعجب العجاب أنى رأيت معظم الجبل مؤلفاً من عاهات بدنية. وآفات جسدية. ثم لمحت من بعيد رجلاً على ظهره حمل لم أر في سائر الأحمال ما يدانيه عظماً فألعمت النظر فإذا هي حدبة فألقاها فرحاً بذلك بين سائر البلايا الآدمية. ورأيت كذلك عللاً وأمراضاً من كل ضرب وصنف غير أنى رأيت الوهمي من ذلك أكثر من الحقيقي. وشاهدت بين هذه نوعاً قد ألف من جميع الأمراض والعلل يحمله في الأكف عدد عظيم من ذوي النعمة والرفاهية واسم هذا الداء الملل. وأعظم عجبي وحيرتي أنى لم أر أحداً قط ألقى بين هذه الآفات والمصائب شيئاً مما ابتليت به نفوس البشر من الرذائل والحماقات والأضاليل. والنقائص والسخافات والأباطيل. فأدهشني ذلك أيما إدهاش إذ كنت قد ظننت أنها فرصة لا يدعها أحد حتى يطهر نفسه من أدران الأهواء والشهوات. ويخلص طبعه من أكدار العيوب والعورات.

ورأيت في الجماعة رجلاً فاسقاً لم أشك في أنه جاء مثقلاً بأوزاره وآثامه. فلما أقبلت على ما رماه أفتشه ألفيت أنه لم يرم شيئاً من تلك الذنوب والحوب وإنما رمى ذاكرته وتبعه رجل ساقط جاهل فنظرته فإذا هو قد نبذ حياءه لا جهله.

ولما فرغ الناس من طرح أثقالهم وفرغت الجنية النحيلة الخفيفة من عملها وكانت قد رأت مني رجلاً ينظر ولا يعمل دنت منى فقلت لذلك فلم يرعني إلا رفعها المجهر إزاء عيني وكنت أعرف في وجهي القصر فإذا هو قد تناهي قصراً حتى عاد أبشع شيء فساءني منظره فألقيته كما يلقي القناع. وكنت قبل ذلك ببرهة أبصرت رجلاً رمى بوجهه لفرط طوله وكان أطول وجه حتى لذقنه وحدها تطول وجهي بأكمله فاستراح من مصيبته واسترحت واستراح الخلق طراً. وأطلق لكل امرئ أن يستبدل ببلواه محنة غيره.

على أنه لم يبق في الجمع إلا متعجب من هذه المحن كيف عدّها أهلها محناً وكيف كان قد