للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والشك ثم هي شيء ذو وجوه مختلفة ينظر إليها من جهات مختلفة. ولكن ذوي الجمود لا يفهمون ذلك ولا يريدون ولا يستطيعون وقد أبوا إلا أن يجعلوا من نظرياتهم وقواعدهم آفات لذوى الأفكار الحرة والخيالات الواسعة. وإلا أن يرسلو من نظرياتهم هذه في مجالس الأنس ومحافل السمر وحوشاً ضارية تزعج الندىّ وتسوء الحفلة فلا غرو أن سميت نظرياتهم هذه وحوش ميادين الذهن والخيال. وأيكم لم ير فى حياته أمثال هؤلاء الثقال ممن قد تشبث بنظرية أو اثنتين يسحبها وراءه كلما دخل مجلساً كأنهما كلبان عقوران قد تأهب واستعد أن يرسلهما على كل من يسوقه سوء الحظ إلى أن يبدى رأياً جديداً أو فكرة مبتكرة أو خيالاً مستملحاً.

الحديث من أجل الشؤون وأخطر الأمور. وإن في الناس من يلحقك من ساعة تقضيها بالحديث معهم من الضعف أضعاف ما يلحقك من صيام يوم والخير لك أن تفقد قدحاً من الدم من عروقك من أن يقطع بعض أعصابك فتراق منه قوتك العصبية. فإنه ليس هناك من أحد يزن قوتك العصبية وهي تسيل فتذهب كما يفعل الطبيب بدمك إذا سال وليس من أحد هناك يضمد دماغك ويربط مخك كما يفعل بجراحك.

من الناس من يأخذ علىّ أنى ربما أعدت بعض بنات أفكاري في مجالس مختلفة كأنهم يرون الأفكار كطوابع البريد لا يعاد استعمالها. بيد أنى لا أرى الرجل الذي يتحاشى إعادة أفكاره إلا عاجزاً مأفوناً. فلتفرضن أيها القارئ أن صاحب حكمة بالغة وعظة ثمينة مثل اعرف نفسك أمسك طول عمره الطويل عن ذكرها والإشارة إليها! كيف ترى ذلك! إلا إنما آراء المرء وأفكاره آلاته وأدواته. أفتحسب النجار محرم عليه أن يستعمل منشاراً بعينه بعد نشره عوداً من الخشب أم تراه حتم عليه أن ينبذ قادومه بعد دقه أول مسمار؟ أنا معك في أنه ليس لي أن أعيد حديثاً. فأما تحريمك على إعادة الفكرة فذلك ما ليس لك أن تفعله. والفكرة ربما تقولها المرة التسعين وهى الجديدة بعد. لأنها قد عادت إليك من طريق جديد على قطار جديد من القرائن.

وربما عثر بالمرء يعيد حديثاً له بعينه ثم لا يعد مليماً ذكروا أنه كان خطيب مصقع وعالم نحرير ممن يتنقلون في البلاد يلقون المحاضرات فلما كان في بعض المدن أدبته إلى مائدة الشاي سيدة من ذوات العلوم والآداب وأشارت وهم على المائدة إلى كثرة تطوافه وتجواله.