كل ذلك قد ذهب ولكن نفحة من البهار ترجعه إلى جميعه بأسرع من لمح البصر.
وعسي أن هناك سبباً مادياً لما يوجد من تلك الصلة الغريبة بين حاسة الشم وبين العقل. قال لي أستاذ مائدة الإفطار أن عصب الشم هو العصب الوحيد الذي يتصل مباشرة بالدماغ - والدماغ - كما أثبت العلم - هو مقر العقل ومجال حركاته. وهذا مخالف لتركيب عصب الذوق الذي لا يتصل بالدماغ مباشرة وإنما بنهاية العمود الفقري ومن ثم تري حاسة الذوق أضعف بكثير من حاسة الشم إيقاظا للذكري واستحضاراً للقرائن.
يا الله! ماذا يخفق في حشاي وينبض في أوتار قلبي من نغمات الشعر الصامت إذا أنا فتحت غرفة مخصوصة في المنزل الذي ولدت فيه! - الغرفة التي أبليت فيها جلباب الصغر ونضوت فيها حلة الحداثة التي عققت بها تمائم الطفولة وبها ألقيت ثنايا الرضاع. - إذا أنا اقتحمت هذه الغرفة فقلت لنفسي على هذا الرف كانت توضع أواني القرنفل والعنبر ولطائم العطر وفأرات المسك وقوارير ماء الورد. وفي هذه الخزانة كان يدخر التفاح كأنما يراد به أن يبقى إلى أن تسوّد بذوره ولكن يمنعه من أن يصل إلى هذه الغاية أن في البيت عيوناً صغاراً قلقة يقظى ماتني تفتش وتعقب. وأنياباً صغاراً مرهفة حداداً مضاءة في شأنها من القرض والقضم كرحا الطحان ما تنفك تدأب وفي ظلمة تلك الخزانة لبث الخوخ أياماً وليالي يتذكر الشمس التي فقد حتى أصبح كقلوب النسكة الأبرار الموجهين جلّ أفكارهم - بين حسرة وتندم - إلى السموات والعرش والجنة. أصبح كهده القلوب قد فاح له أرج كأنفاس الملائكة إلا أن بأركان هذه الغرفة يتردد صدي عبق - هو صدى عشرين خريفاً قد بادت فانقرضت.
٢
نظرية أخلاقية
المزاح والجد
إن فيكم من يبلغ به حب المزاح أنه يود أن يراني أسعى على أم رأسي ولا يود أن يراني واعظاً على منبر استخدم هذا الرأس - بدل السعي عليه الذي لا يجدي أكثر من إثارة الضحك - للإرشاد والنصيحة.
ألم تعلم أنه ليس من أسبوع يمر على صديقي أستاذ مائدة الإفطار إلا ويرد عليه كتابان أو