إلى منهاجه بالنظر والبحث ولكن الشاعر يفوّض أمره إلى غريزته فيبلغ المدى بطريق أقصد وأقرب.
نقول أن على العبقرية لصبغة بهيمية كأن ذلك عيب ومنقصة. كلا! أو ليست الغريزة حتى في أسفل الحيوان أكثر آلهية من أعلى وأفضل ما أملاه عقل الإنسان ورويته؟ ماذا ترى ببيت النحلة إلا أنه فكر إلهي محض صريح وماذا تري قانون أعظم المهندسين إلا أنه فكر إلهي كدر مشوب - نسخة ممسوخة من قانون محكم سنته الحكمة الإلهية فأخذته نفس بشرية ثم عكسته مشوهاً كما تعكس المرآة الكدرة الصورة.
النبوغ كثير والعبقرية نادرة. والنبوغ صفة قد تشمل الأسرة معظمها أو جميعها والعبقرية من مزايا الأفراد. مثلما ترى في العشيرة مارداً واحداً أو قزماً واحداً ولكنك لا ترى عشيرة كلها مردة أو كلها أقزام.
والنبوغ مسلط عليه العقل يقوده - كما أسلفنا_بالإرادة. والعبقرية مسلطة على الشخص بأجمعه تفعل به كما تشاء. والناس يرحبون بالنبوغ في أي إنسان ويمشون له ويفرحون به. ولكنهم كثيراً ما يضيقون ذرعاً بالعبقرية وصاحب العبقرية ويحارون فيه ماذا يصنعون به. وذلك أن النبوغ سهل ذلول. كأنه بين يدي الدنيا حيوان مذعان يحنو لها رأسه وهي (الدنيا أي الناس) تلبسه الرسن وتلقي عليه الحمل فيستقل به في نشاط وروح صبوراً على الشكيمة جلداً على السوط. ولكن العبقرية تجزع من اللجام وتقلق من السرج. ويمنعها غليان الدم في عروقها أن تسكن للسائس وتذعن للمرتاض والنبوغ في كافة الأحوال محسود. وقلما ترى صاحب العبقرية إلا بالرحمة جديراً. وكيف وما زلنا نرى صاحب العبقرية عرضة لأن يموت في مستشفى أو سجن أو مثقلاً بالدين أو موصوماً بسبة.
ولكن مالي أزن الكلام في مقارناتي كأني بين ذخائر البلاغة يقال. في يدي الموازين والأثقال. وأراك بعد لست إلى كل ذلك في حاجة. وفي تجاربك ما يكفيك. ألست تعرف عشرين من ذوي النبوغ يرقون في سلم الحياة؟ وربما تعرف عبقرياً واحداً. فإن صح ذلك فما أراك تحب أن تعرف عبقرياً آخر. لأن العبقرية وعلى صاحب صاحب العبقرية أن يعالجا تلك الغريزة الإلهية المشاق التي تجدو الطائر نحو الجنوب وتحدو الشاعر نحو السماء. لقد كان حقاً من أصعب أن رزق بعض الناس صاحباً مثل شاترتون أو بارنز.