للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

به الهمّ حتى لاح وجهه علائم الهرم ولا تعدم الملاجئ والإصلاحيات أمثال هؤلاء الغلمة. كان الله للفئة المساكين! إن بوجوههم من سيما الحزن والجوى. ومن غضون الرثاثة والبلى ما يخيل إليك أن أعوامهم القلائل ستون عاماً.

وكائن رأينا من شاعر كان إذا نفثت كلماتهن قلب شاخ قبل أوانه. وكأنما صباح شبابه لحزنه وبرودته ووحشته مساء الشيخوخة في غيره. ومن تأمل الشاعر الشاب شلى حيث يقول

لهممت من فرط الأسى ... ومضاضة الحزن الأليم

القي بنفسي في الثرى ... وأصيح كالطفل اليتيم

وأميت نفسي بالبكا ... ء فأستريح من الهموم

وأرى حشاشة مهجتي ... تنثال في الدمع النظيم

أعذب بانداء الردى ... في حبة القلب الكليم

من تأمل هذه الأبيات وتدبر ما تنطوي عليه من شدة الجوي علم أنها خرجت من فؤاد هو كما قال ذلك الشاعر قد شاخ قبل أوانه_من فؤاد عمره_وشد ما يخطئ الناس إذ يقدرون عمر الشاعر كما يقدرون أعمار سائر البشر كأنهم لم يعلموا أن دقيقة الشاعر يوم غيره - من فؤاد عمره ست وعشرون.

كلا النبوغ والعبقرية زيادة في العقل على مقدار المتوسط على أن العبقرية أكثر وأرجح. هذا من جهة المقدار فأما من حيث النوع فإنها صنف آخر خلاف النبوغ.

النبوغ ملكة إنسانية. والعبقرية ملكة فوق الإنسانية. فإن تشأ فقل جنية (وهو مطابق لاشتقاق اللفظة) أو ملائكية أو إلهية. النبوغ ينقاد للإرادة فهو أشبه بالصفات الإنسانية كما قلنا ولكن العبقرية ضرب من الغريزة والإلهام كالذي نراه في الحيوانات السفلى يدبر بارع أفاعيلها ويضبط بديع حركاتها فعليها لذلك صبغة بهيمية. ولكن الغريزة في الحيوان هي كما شاهدناها أصدق من أسمى محاولات البشر. ألم تنظر إلى الطير كيف تجري في أسفارها على نظام لو سئل المجمع الجغرافي الملوكي أن ينقح فيه لما وجد للتنقيح فيه مجالاًً. وكذلك الشاعر (العبقري) يسافر بلا خريطة وبلا أعلام إلى بقاع من عالم الحقيقة غير مطروقة لم تهتد إليها الفلسفة بعد ولم تضعها على خريطتها. ذلك أن الفيلسوف يهتدي