خلبت هذه الفكرة أذهان الجماعات فارتكزت في عقولهم ارتكازاً قوياً وآتت أكلها بعد زمن يسير فزعزعت أسس الجمعيات الأولى وولدت أعظم الثورات ورمت أمم الغرب في اضطرابات شديدة لا يعلم مصيرها إلا الله ثم يقول إلا أن العلم تقدم وأثبت بالبرهان بطلان مذاهب المساواة وأن الهوة التي أوجدها الزمان في عقول الأفراد والشعوب لا تزول إلا بتراكم المؤثرات جيلاً بعد جيل ثم يقول بعدما تقدم: ما من عالم نفسي ولا من سائح ذي نظر ولا من سياسي مجرب إلا وهو يعتقد الآن خطأ ذلك المذهب الخيالي أعني مذهب المساواة الذي قلب الدنيا رأساً على عقب وأقام في القارة الأوربية ثورة أرتج الكون منها وأذكى في القارة الأميركية نار حرب الأجناس وصير جميع المستعمرات الفرنساوية في حالة محزنة من الانحطاط ومع ذلك فقلما يوجد بين أولئك المفكرين من يقوم في وجهه بمعارضة ما. . . . .
كل ذلك جرى من سريان مذهب المساواة!! على أن دعاة المساواة لم يشطوا في مذهبهم. وقد علموا أن الناس ليسوا على غرار واحد في العقل والفضل. فالعجب للدكتور ما باله يبادر فيمسك بألسنتهم ويأخذهم بشهادتهم كأن هناك تناقضاً بين قولهم ودعوتهم!! فإن دعوتهم إلى تساوي الناس في الحقوق أمام القانون لا تعطل تنازع البقاء بينهم ولا تذهب بمزايا التفاوت بين قادرهم وعاجزهم. بل هي تفسح المجال لهذا التنازع وترفع العوائق التي يضعها في طريق المنافسة استئثار بعض الناس ببعض المنافع بلا موجب للاستئثار. وبغير هذا المبدأ لا يكون تمت معنى للنظام والقانون إلا إذا كان الغرض من إبطال المساواة الدعوة إلى إطلاق الناس أقويائهم على ضعفائهم. وتحقيق مذهب الفوضى.
يحق لأعداء المساواة أن ينكروا على دعاتها كل الإنكار. ويحق لهم أن يحتجوا عليهم بأن العلم تقدم وأثبت بالبرهان بطلان مذاهب المساواة هذا إذا كان دعاة المساواة في شك من ذلك. أو إذا كان قد قام منهم قائم يمني العامل الجاهل بأن يتبوأ منصة الفيلسوف في الجامعة أو يسول له أن يطالب بوظيفة الطبيب أو المهندس. ولكننا نعلم أن داعياً كهذا لم يقم ولن يقوم لأن مديري البيمارستانات لا يفرطون في مثله إذا ظهر. وكل ما يمنى به الداعي إلى المساواة ذلك العامل أنه يكون متساوياً مع سائر الناس في الأمن على حياته.