كذلك فلن يكون هنالك مادة تعيش منها الفئة التي لا تشتغل. فأما إذا زاد الحاصل على المستهلك تكون من ذلك فضل لا يزال - حسب المعروف من مبادئ الاقتصاد يزداد وينمو حتى يصبح ذخيرة يستمد منها_من طريق قريب أو بعيد كل أمريء لم يخلق الثروة التي يعيش منها. بهذه الوسيلة وفي هذه الحالة يتسنى وجود فئة علمية يمكنهم التفرغ لتلك المسائل التي كان يحجزهم عنها في أول أمرهم شدة الاشتغال بإحراز لوازم المعيشة.
من المعلوم أن في الأمة الجاهلة تكون سرعة جمع الثروة على حسب مالبلادهم من الخصائص الطبيعية، نحن لا ننكر أنه إذا فات هذا الدور الأول وجاء الدور الذي فيه تتمول الأمة يكون هناك أسباب أخرى لسرعة جمع الثروة. ولكن ما دام هذا الدور لم يبلغ فإن تقدم الأمة في سبيل الثروة يكون وقفاً على أمرين: أولهما ما يجري عليه العمل من النشاط والاطراد، ثانيهما جزاء الطبيعة من خيراتها على هذا العمل. على أن هذين الأمرين هما بعد نتيجتان من نتائج القوى الكونية والعوامل الطبيعية. فأما جزاء الطبيعة من خيراتها على عمل الأمة فذاك رهن بخصوبة التربة وتلك رهن كذلك بما تحوي من المواد الكيماوية وبما تنال من ريّ الجداول أو سقياً الغيوث وبمقدار حرارة الهواء ورطوبته. وأما ما يجري عليه العمل من النشاط والاطراد فذاك رهن بالحالة الجوّية. وهذا باد في صورتين. الأولى - وهي أوضحهما_أنه إذا كان الحر شديداً فإنه يسلب رغبة الناس في العمل ويقلل كفاءتهم له على حين لو يرزقون جوّاً سجسجاً وهواءً معتدلاً لأبدوا رغبة وكفاءة. الثانية - وهي أقلهما وضوحاً وإن لم تكن أقلهما أهمية_هي أن تأثير الجو ليس قاصراً على تنشيط العامل أو تثبيطه بل يؤثر كذلك من حيث إكسابه العامل أو حرمانه إياه فضيلة الثبات والمواظبة. وهذا هو السبب في أنك لا تجد من أمم الشمال من أوتي من المضاء والمثابرة والجدّ ما قد امتاز به سكان البقاع المعتدلة. وسبب ذلك بين إذا تذكرنا أن قسوة البرد ونقصان الضوء في أقاصي البلدان الشمالية مما لا يزال يعوق أهل تلك الجهات عن المضاء في أعمالهم والاستمرار في أشغالهم. نتيجة ذلك أنه لما كان هذان العائقان يضطران العامل إلى الانقطاع عن عمله فلا جرم أن يصبح هذا الانقطاع لكثرة التكرار عادة ثم يصبح بحكم العادة طبيعة. ولا جرم فلقد انقطع نظام أعمالهم وانبت سلك أشغالهم ففقدوا ذلك المضاء الذي هو من مضمون ثمرات الشغل الدائم والعمل المستمر.