ومن ثم ينشأ في الأمة طبيعة قلق وملل يبرئ الله منها أهل العمل المستمر الدائم. وهذا مرض قوي حسبك برهاناً على قوته أنه يظهر في البلدين المتفاوتي الأحوال المتناقضي الطبائع. فإنه ليس أعظم من الفرق بين السويد والنرويج من وجهة وبين اسبانيا والبرتغال من وجهة أخرى حكومة وشريعة وديناً وآداباً. ولكن هذه الأربع متحدة تمام الاتحاد في نقطة واحدة. وذلك أن الزراعة فيها جميعاً متقطعة غير متصلة. فالحرّ والجفاف في اسبانيا والبرتغال والبرد وقصر الأيام في السويد والنرويج تعوق العمل وتوقف سير الشغل. فمن ثم تري أن أهل هذه البلاد الأربعة على اختلافها في كثير من الأحوال والشؤون قد اتحدت في هذا الخلق أعني نوعاً من الملل والقلق وقلة الثبات والخور مما هو جِدُّ منافٍ لما لأهل البلاد الخالية من عوائق العمل من صفات الحزم والعزم والمضاء والمواظبة.
ونحن إذا أجلنا الطرف في تاريخ الأمم القديمة لم نجد أمة أحرزت بنفسها حضارة وتمديناً إلا وكان ذلك بفضل هذين السببين (الهواء والتربة) أو أحدهما. فالمدنية في أسيا ما زالت قاصرة على تلك البقعة العظيمة التي ضمن خصبها لأبن أدم هذه الثروة التي لولاها لا تسرع الأمة قط في سبيل العلم وهذه البقعة العظيمة تمتد ما بين ساحل الصين الجنوبية شرقاً وساحل الأناضول وفلسطين غرباً. وفي شمال هذه المنطقة الفسيحة أرض مستطيلة جرداء مملحة لم تبرح موطن قوم همج رحالة ما زالوا من جدب أرضيهم في فقر وفاقة وقد رأيناهم لا تفارقهم الهمجية ما برحوا بهذه البقعة. فأوضح الأدلة على أنه لا علة لهذه الهمجية إلا الأسباب الطبيعية أن هؤلاء القوم بعينهم وهم أمم المغول والتتر - أسسوا في أوقات مختلفة دولاً عظيمة في الصين والهند وفارس بلغوا بها منزلة في الحضارة لا تقصر عن أسمى ما أدركته أفخم الدول القديمة. لأن بلاد الهند أرض حباها الله بكل ما يقر الأعين وتشتهيه الأنفس فجر أرضها عيوناً وسربلها حدائق وجنات وملأ تربها زاداً وقوتاً، وزبرجداً وياقوتاً، وشحن أنهارها سمكاً وحيتاناً، وبحارها دراً ومرجاناً، وأسكن آجامها ضروب الحيوان ذات الفراء الملس المرقوشة. وصنوف الطير ذات الأجنحة الموشية المنقوشة. في هذه الأرض الطيبة الكريمة كان أول ما نال أولئك الهمج شيئاً من الرقي والحضارة وأول ما أحدثوا علوماً وآداباً وطنية. وهي أمور لم يطيقوا إدراكها في أوطانهم ومساقط رؤوسهم وكذلك إذا نظرت إلى العرب ترى أنهم لم يكونوا في أوطانهم إلا قوماً