إليه الكيمياء والفسيولوجيا في هذا العصر جديراً أن يوصلنا إلى أصدق النتائج وأحكمها.
الغذاء الذي يستهلكه الإنسان هو ذو أثرين - أثرين فقط_لازمين لحياته. وهما الغذاء يعطيه أولاً تلك الحرارة الحيوانية التي لولاها تعطلت وظائف الحياة ويعطيه خلاف ذلك بدل الذي لا يزال يفقده من مادة جسده. ولكل غرض من هذين غذاء مخصوص. فأما حرارة الأبدان فتصان بالمواد الخالية من الأزوت تلك التي تسمى اللاأزوتية وأما تعويض خسارة الأبدان فبالمواد الأزوتية التي نتغذاها يتحد مع ما نستنشقه من الأكسوجين فيتولد من اتحادهما ذلك الاحتراق الداخلي الذي تتجدد بواسطته االحرارة الحيوانية. أما في الحالة الثانية فإن قلة الألفة بين الأزوت والأكسوجين تحفظ الأغذية الأزوتية من الاحتراق فتتمكن بذلك من أن تعوّض البدن من مستهلكاته خيراً.
هذان هما صنفا الغذاء الأعظمان. فإذا بحثنا عن تلك العوامل التي تدبر العلاقة الكائنة بين هذين الغذائين وبين الإنسان وجدنا أن أعظم تلك العوامل هو الجو. فإن الإنسان إذا كان عائشاً ببلد حار فحفظ الحرارة في بدنه يكون أسهل عليه مما لو كان يسكن بقعة باردة فتقل إذن حاجته إلى الأغذية اللأزوتية التي ليس من شأنها إلا أنها تبقي حرارة البدن عند درجة مخصوصة وكذلك تراه أعني ساكن الأرض الحارة أقل حاجة إلى الأغذية الأزوتية لأنه مذ كان على العموم أقل تحريكاً لجسده من ساكن البقاع الباردة فهو أبطأ استهلاكاً لمادة جسده.
وبما أن سكان البلاد الحارة يستهلكون في حالهم العادية الطبيعية من الغذاء أقل مما يستهلكه سكان البلاد الباردة فينتج من ذلك أنه إذا تساوت في البلادين - الحارة والباردة_سائر الأحوال غير ذلك فإن زيادة السكان تكون في البلاد الحارة أسرع منها في الباردة. وأنه لا فرق بين أن تكون وفرة الغذاء في بلد ما ناشئة من كثرة الحاصلات وبين أن تكون ناشئة من قلة الاستهلاك. فإنه إذا كانت أمة من الأمم أقل استهلاكاً للغذاء فذلك ككونها أوفر نصيباً من ذلك الغذاء. لأن القليل في هذه الظروف يفعل فعل الكثير. وكذلك المقدار الغذائي بعينه يحدث من سرعة ازدياد السكان في الأرض الحارة ما ليس يحدثه في البقعة الباردة.
ومما يؤيد هذا القول الأخير أن الغذاء في البلاد الباردة أصعب منالاً منه في البلاد الحارة يبذل في سبيل الحصول عليه من الكد والعمل أكثر مما يبذل في البقاع الحارة وسأوجز القول في بيان ذلك الأمر متجنباً الجزيئات والتفاصيل إلا ما كان ضرورياً لفهم هذا المبحث