للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

رأيت ذلك فأخذتني العصبية لقومي، والحمية للغتي. فأمسكت القلم وكتبت في الحال لجريدة النوفيل فصلاً باللغة الفرنسية تكرمت بنشره في اليوم الثاني. أظهرت في هذا الفصل ما تذكرته من أوجه الشبه بين الوزير ابن زيدون وبين الرئيس بوانكاريه ثم ذكرت ما رواه ابن بسام صاحب الذخيرة في محاسن الجزيرة أي جزيرة الأندلس. قال عن ابن زيدون: فاما سعة ذرعه، وتدفق طبعه؟ وغزارة بيانه، ورقة حاشية لسانه: فالصبح الذي لا ينكر ولا يرد، والرمل الذي لا يحصى ولا يعد. أخبرني من لا أدفع خبره من وزراء اشبيلية، قال: لَعهدي بأبي الوليد قائماً على جنازة بعض حُرَمه والناس يعزونه على اختلاف طبقاتهم، فما سمع يجيب بما أجاب به غيره لسعة ميدانه، وحضور جنانه قال الصلاح الصفدي: وهذا من التوسع في العبارة والقدرة على التفنن في أساليب الكلام. وهو أمر صعب إلى الغاية وأقل ما كان في تلك الجنازة - وهو وزير_ألف رئيس ممن يتعين عليه أن يشكر له، فيحتاج في هذا المقام إلى ألف عبارة مضمونها الشكر. وهذا كثير إلى الغاية، ولا سيما من محزون فقد قطعة من كبده.

ولكنه صوب العقول إذا انبرت ... سحائب منه أعقبت بسحائب

أظهرت للجريدة الفرنسية أن ما صنعه ابن زيدون أكثر بكثير مما فعله الرئيس بوانكاريه، ولا سيما إذا نظرنا إلى الموقفين فإن المثكول بالأولاد، المحروق الفؤاد، يستعصي عليه الكلام، ويحتبس لسانه دون البيان، ولو كان في بلاغة قس وفصاحة سحبان.

ثم ذكرت في تلك الرسالة أن ابن زيدون ممن يستأهل التعريف به في هذه الأيام، وأنني ربما اختلست فرصة من وقتي وتملصت من الأشغال الكثيرة التي تستفرغ جهدي وفكري لتحضير محاضرة أتحف بها أخواني في نادي الموظفين بالإسكندرية. ولكنني لم أختم الرسالة دون الاستطراد إلى ما فعله بعض المشارقة مما ينطوي تحت هذا الباب واخترت ثلاثة شواهد أوردتها لأولي النهي من الإفرنج والجاهلين أو المتجاهلين من المصريين المتفرنجين ليعلموا أن في العربية كنوزاً لمن يطلبها، وذخائر تجعل لها ولأهلها فخراً باقياً. اخترت المثال الأول من العراق، وأشرت إلى الحريري صاحب المقامات وذلك أنه كلما جمع بين الحارث بن همام وبين أبي زيد السروجي واحتاج إلى التفريق بينهما وإلى القول فلما أصبح الصباح تراه يعبر عن هذا المعنى في كل مقامة بعبارة تغاير الأخرى.