كل صفحة من صفحات التاريخ قد كتب السيف فيها أغلب السطور، وكم قيت هذه الغبراء بزكيّ الدماء، وكم جالت في أوديتها الوحوش والأوابد، وكم سرحت العقبان والطيور والبوارح، تلتهم لحمان القتلى، وتأكل من أشلاء الشهداء.
وقديماً تحارب أعتق الأمم مدنية وأسبقها حضارة، وقديماً أغاروا على جيرانهم، فتلكم حروب الفراعنة مع الرعاة، وتلكم أغارات أشور وفارس على مصر، وتلكم حروب اليونان والفرس والتتار مع الصين والهند والعجم والعراق، والحروب البيونوكية بين رومه وقرطاجه، وهذه فتوحات الإسلام ومحاربة العرب للمعارضين من اليونان والرومان والعجم والفرنجة، وهذه الحروب الصليبية وحروب الترك من آل سلجوق وآل عثمان، وفتوح القسطنطينية وحروب نابليون التي أثارها في بادئة أمره باسم حقوق الإنسان، ثم انقلبت بعد إلى توسيع سلطانه وإخضاع الرؤوس المتوجة لكلمته. وقصارى القول أنه لم يمر على الإنسان حين من الدهر إلا وكان فيه للسيف وأسنة المران وقذائف النيران، القول الفصل لبلوغ المطامع، وإطفاء لهيب التعصبات الدينية والجنسية، قول عمد إليه الأولون فيما اختلفوا فيه، واقتدى به الآخرون، على حين وجود ما يسمونه محاكم التحكيم، وستذهب السنون وقصر الهاي قائم يزينه ذلكم الاسم الجميل قصر السلام ولكن للأسف لا يلجأ إليه إلا في نادر الظروف، ولا يغاث فيه مجتاح ولا ملهوف، حتى لقد حق قول أبي تمام:
السيف أصدق إِنباَء من الكتب ... في حدّه الحدُّ بين الجِدّ واللّعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف في ... متونهن جلاء الشك والرّيب
تتوالى السنون وتتقادم العصور وفي كل يوم نشهد لقول أبي تمام آلاف الأمثال الناهضة على صحته، فكل يوم نسمع زمجرة القوى الغضبية الراسخة في النفوس وتسلحها بمتقن المدمرات، فكم أفتنّ القوم في آلات التدمير، وكم اخترعوا من وسائل إزهاق الأرواح مما يحصد بين غمضة العين وانتباهتها آلاف النفوس.
وقد نازع الشرقي عديد السنين محله في الحياة إزاء الغربي المهاجم ورأي يوماً له ويوماً عليه، وأخضع ما أخضع من مختلف الجنسيات والمذاهب، ودوّخ ما دوّخ من شاسع الأقطار والممالك، وخفقت أعلامه فوق متعدد البحار ومختلف الأقطار، حتى ظن المسلمون في وقت من الأوقات أنهم بلغوا من السلطان أعلى مكانه، وكنت ترى الفاتح العثماني