والسيف في يده مطلاً على أسوار (ويانة) والعربي والرمح متنكباً به، غير هياب ولا وكل، قد بلغ أعالي مجرى الرون، لا يفصله عن أخيه التركي إلا قمم جبال الألب، حتى لم يبق إلا اليسير لإتمام قوس الهلال، ويضع الفاتح الأندلسي يده في يد الفاتح البيزنطي، ولكن لم تتم نعمة الله، ووقف المسلمون حيال أمم الغرب وشعوبه، وقفة الليث يحمي عن عرينه، لا يرتد عن قرنه إلا مخضباً بدم فريسته وذلك ما فعله بعض ملوك الأندلس كابن الأحمر ومن قبله الخليفة الكبير عبد الرحمن الناصر والفاتحون العثمانيون. وقبر السلطان مراد الخامس الذي صار منذ سنة مضت يخفق عليه العلم الصربي بسهل قصّووه يعد تمثالاً حياً لها الكفاح وذياكم النضال.
ولكن قضى القضاء على الدولة الإسلامية في الأندلس منذ خمسمائة عام وأخرج المسلمون من ديارهم، وتركوا الأموال والبنين بين أيدي العدو فنهب منها ما نهب، وسبي ما سبي، واستباح ما استباح، وعمّد ما عمد، وفرق بين المولود ووالده، وحال بين رضيع ومرضعه، وشيخ وعشيرته، ووضع السيف في الرقاب، وحول ما شاء أن يحول من بيوت كانت بالإسلام حافلة، ومدارس كانت بفلاسفته زاهرة، ومصائب حلت بالإسلام غرباً منذ خمسة قرون لا يزال (ناسور) جرحها يفرز صديد الأسف، ونواح أبي البقاء الرندي على الأندلس في مرثيته المشهورة لا يبرح يتردد صداه لدى كل ناطق بالضاد، وحوادث البلقان في العام المنصرم، وما حل بالإسلام في الرومللي، قد جددت تلكم الذكرى واهتاجت النفس، واستوقدت الضلوع، فليسمع المسلمون عولة أبي البقاء
دهي الجزيرة أمر لا عزاء له ... هوى له أحد وأنهد ثهلان
أصابها العين في الإسلام فارتزأت ... حتى خلت منه أقطار وبلدان
فسل بَلنسِية ما شأن مُرسيةٍ ... وأين شاطبة أم أين جَيان
وأين قرطبة دار العلوم فكم ... من عالم قد سما فيها له شان
وأين حِمصٌ وما تحويه من نُزَه ... ونهرها العذب فياض وملآن
وما يقوله أبو عبد الله بن الآبار القضاعي كاتب الأمير زيان صاحب بلنسية وقد أوفده مستنجداً بصاحب أفريقية أمير المؤمنين أبي زكريا بن أبي حفص:
يا للجزيرة أضحى أهلها جزراً ... للحادثات وأضحى جدها تَعسا