للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

الحكايات والخرافات، ثم دخل العالم بعد ذلك في حال جديدة فتوارت الآلهة أمام العقائد الصحيحة، ووضعت آساس المدنية الحقة، فتحولت أخلاق الإنسان وتهذبت مداركه وأصبح الشعر بعد ذلك أقرب إلى الحقائق وأدنى إلى المعقول.

وكأنما العالم راح بعد ذلك منهوك القوى من أثر المدنيات الأولى، فأقبلت عليه العصور المظلمة، وأرخت عليه سدولها، فنام الشاعر وسكنت أغاريده وتنوسى هوميروس وإلياذته، وفرجيل وإينيادته، وهوراس وشاعريته، وتتابعت عشرة قرون خرس كما يقول كارليل، حتى أنبتت أرض إيطالية دانتي، فأنشأ (الكوميديا المقدسة) وكان في منحاه صدى لفرجيل، وجاء بعده بترارك فنظم ملحمته (أفريقيا) وبوكاسيو وجيوتو ونكولر بيزانو، فكانوا جميعاً طلائع الشعر الغربي، ومرددي الشعر الروماني واليوناني، وتقوضت بهم حكومات الإقطاعاتن وبدأت عبادة جديدة للجمال، وأخرى للعلمن وثالثة للسياسة والمُلك، وأحدثت الآراء الجديدة في الإنسان والحياة ومقاصدها وحقوقها وواجباتها، ومباهجها وآلامها، وفي الدين والعلم وما إليهما مما له مساس بتاريخ الإنسانية، فنشأ من تلكم الآراء الإصلاح الديني الذي قام به مارتن لوثر وكالفن وجون نوكس واراسماس، ونجم عنها النظريات والآراء التي أضرمت نار الثورة الفرنسية الكبرى، ولا يزال أثر هؤلاء الشعراء باقياً في آداب الغربيين حتى يومنا هذا.

وعن هؤلاء أخذ شعراء الانجليز والفرنسيين، واقتفوا آثارهم وآثار الشعر الروماني واليوناني اللذين أخذ عنهما هؤلاء الطليان. وكان معاصراً لهم أول شعراء الانجليز شوسر، فكان له من الأدب الطلياني عالم جديد سمت فيه شاعريته إلى أوجها، وتعلم من جحيم دانتي كيف تكون الروح الشعرية، وتلقن من مقطعات بترارك صناعته، وأخذ عن قصص بوكاسيو وإبداعه في السرد، وكان شوسر يأخذ عناوين قصائد هؤلاء فينسج على منوالها، في أحسن قالب ومكانة شوسر عند الانكليز مكانة امرئ القيس عند العرب، بل أن روحيهما تكادان تتفقان من أغلب الوجوه.

فأنت ترى من ذلك أن الشعر الغربي يرجع مصدره إلى الشعر اليوناني والشعر الروماني. ولم يكن لشعراء الغرب في بادئة أمرهم إلا نوعان من الشعر أخذوهما عن اليونانية أيضاً، وهما الشعر القصصي، وهو ما يعبر عنه في الانجليزية بلفظة والشعر الغنائي، وهو ما