إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلَّغ رسالة ربه، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تبارك وتعالى، وعظِّموا أمره، واحذروا زواجره، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، الاستمساك بالدين هو الهدف الأسمى لكل مسلم، وهو السياج الحامي لكل حق، إذا حفظ الدين فقد حفظت الأنفس والأموال، وصينت الحريات والكرامات، والتفريط بالدين مآله هلاك النفوس، وخراب الديار، وضياع الحقوق.
إن من سنن الله الثابتة أن القُوى المعنوية هي الحافظة للقُوى المادية، فالعقيدة والأخلاق ومناهج التربية هي الوسيلة للحفاظ على أي مكسب مادي، وإذا حصل تفريط أو تساهل فلا يُغني مالٌ ولا تنفع قوة، يقال ذلك -أيها المسلمون- والناس تتحدث عن الهجرة وعبرها، وهو حديث يتجدد ولا ينقضي إذا أراد المسلمون صدق التأسي لصاحب الهجرة محمد صلى الله عليه وسلم.
معاشر الإخوة! ينحصر معنى الدين عند غير المسلمين في عبادات وطقوس محدودة، ذات أوقات معلومة، وأماكن معينة؛ يزاولها أصحابها حين يجتمعون عليها في معابدهم، وذلك غاية ما يريدون أن يؤدون تلك الطقوس والشعائر، ولكن الإسلام دين الله غير ذلك، إنه الدين الذي رضيه ربنا، وأتم به علينا نعمته وأكمله، فهو كامل متكامل عقيدة وعبادة، وآداباً وأخلاقاً، وأحكاماً شاملة، تنتظم العلاقات بين العبد ونفسه، وبينه وبين ربه، وبينه وبين الخلق أجمعين، إخواناً وأقارب وأبعدين.
تتسع دائرة الإسلام لتحيط بكل ذلك وما وراء ذلك، ولا يتحقق الإسلام على وجهه إلا إذا ساد البقعة كلها؛ تقوم فيها أحكامه، وتشيع فيها آدابه، إضافة إلى قيام الشعائر ورسوخ العقائد، وإذا تعذَّر على المسلم إقامة دينه، والالتزام بآدابه، فإنه ينتقل إلى بلد يتحقق فيه ذلك، تكثيراً لسواد المسلمين، ونصرةً لدين الله في العالمين، ولأجل هذا عاتب القرآن أقواماً استكانوا وضعفوا من غير عذر، فلبثوا في أرضٍ كانوا فيها غير قادرين على إقامة الدين على وجهه، ولم ينهضوا لتأييد إخوانهم في بلاد الله الواسعة، ذلك أنهم باستضعافهم غير المعذور، يَجرُّون على أهل الإسلام ضعفاً حين يرضون بالإقامة في ديار الكفر، متخلفين عن تقوية الإسلام في دياره:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً}[النساء:٩٧].
واليسر في مبادئ الإسلام غير منكور، فيقدر العذر الشرعي لأهله {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُورا}[النساء:٩٨ - ٩٩].