يقول وهب بن منبه رحمه الله:[[قيام الليل يشرف به الوضيع، ويعز به الذليل، وصيام النهار يقطع عن صاحبه الشهوات، وليس للمؤمن راحة دون الجنة]].
ويقول ابن عباس رضي الله عنهما:[[من أحب أن يهون الله عليه طول الوقوف يوم القيامة، فليره الله في ظلمة الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه]].
إنهم عباد الرحمن:{يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً}[الفرقان:٦٤] انتزعوا نفوسهم من وثر الفرش، وهدوء المساكن، وسكون الليل، وسكون الكون غالبوا هواتف النوم، وآثروا الأنس بالله، والرجاء في وعد الله، والخوف من وعيده:{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ}[الزمر:٩] عبادٌ لله قانتون متقون: {قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}[الذاريات:١٧ - ١٨] لصلاة الليل عندهم أسرارها، وللأذكار في نفوسهم حلاوتها، وللمناجاة عندهم لذتها.
يقول أبو سليمان الداراني رحمه الله:[[أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل لما أحببت البقاء في الدنيا]].
ولما حضرت ابن عمر رضي الله عنهما الوفاة قال:[[ما آسى على شيءٍ من الدنيا إلا على ظمأ الهواجر، ومكابدة الليل]] قيام الليل انقطاعٌ عن صخب الحياة، واتصال بالكريم الأكرم جل وعلا، وتلقي خيوطه ومنحه، والأنس به، والتعرض لنفحاته، والخلوة إليه، الله أكبر! ما طاب لهم المنام، لأنهم تذكروا وحشة القبور، وهول المطلع يوم النشور، يوم يبعث ما في القبور، ويحصل ما في الصدور، ولهذا قال قتادة رحمه الله:[[ما سهر الليل بالطاعة منافق]].
عباد لله صالحون:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[السجدة:١٦ - ١٧] لقد تعددت مقاصدهم، واختلفت مطالبهم، وتنوعت غاياتهم، والليل هو منهلهم وموردهم:{قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ}[البقرة:٦٠] فهذا محبٌ يتنعم بالمناجاة، وذلك محسنٌ يزداد في الدرجات، ويسارع في الخيرات، ويجد في المنافسات، وآخر خائف يتضرع في طلب العفو، ويبكي على الخطيئة والذنب، وراجٍ يلح في سؤاله ويصر على مطلوبه، وعاصٍ مقصر يطلب النجاة، ويعتذر عن التقصير وسوء العمل، كلهم يدعون ربهم، ويرجونه خوفاً وطمعاً، فأنعم عليهم مولاهم فأعطاهم واستخلصهم واصطفاهم، وقليلٌ ما هم، اكتفوا من الليل بيسير النوم، مشتغلين بالصلاة والقرآن والذكر والصوم، تلكم هي همم القوم، وتأملوا هذه الآية العظيمة:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً * إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً}[الإنسان:٢٦ - ٢٧].
الليل ميدان ذوي الهمم العالية من أصحاب العبادات والدعوات، هو الزاد الصالح لرحلة الحياة، أما الذين يحبون العاجلة فصغار الهمم، صغيرو المطالب، يغرقون في العاجلة:{وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً}[الإنسان:٢٧] وفي هذا يقول بعض السلف: [[كيف يرجو النجاة من سوء الحساب من ينام الليل، ويلهو بالنهار]] أما كثيرٌ من أبناء هذا العصر فلهوهم قد استغرق الليل والنهار، نعوذ بالله من الخذلان.