[البيت الحرام مثابة وأمنا]
أيها الإخوة: ولَمَّا جعله الله قياماً للناس، جعله مثابة أمن ومباءة سلام: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران:٩٧] بل لقد امتد رواق هذا الأمر المكي حتى نال الوحش والطير والشجر.
ما أحوج البشرية المُفَزَّعَة الوَجِلَة المتطاحنة المتصارعة إلى منقطة الأمان التي جعلها الله في هذا المكان، وجعلها في هذا الدين، وبيَّنها للناس في هذا الكتاب، الأمن لا يكون إلا في جوار الله، والخوف لا يكون إلا في البُعد عن هدى الله.
نعمة الأمن شديدة المساس بالإنسان، عظيمة الوقع في حسه، متعلقة بحرصه على نفسه.
تأملوا قول كفار قريش لمحمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص:٥٧].
إن كثيراً من ضعاف الإيمان يسلكون هذا المسلك الجاهلي، يشفقون من اتباع شرع الله، ويخشون من السير على هدي الله، وَجِلُون من عداوة أعداء الله ومكرهم، يرهبون من تألُّب الخصوم عليهم، يشفقون من المضايقات الاقتصادية وغير الاقتصادية.
{إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص:٥٧] ماذا كان جوابه؟ وماذا كان الرد؟
لقد جاء الرد القرآني واضحاً: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص:٥٧] من الذي وهبهم الأمن في ديارهم؟!
ومن الذي جعل لهم البيت أمناً حراماً؟!
ومن الذي جعل القلوب تأوي إليه، تحمل من ثمرات الأرض وأرزاقها، تتجمع في حرم الله من كل صقع بعد أن تفرقت في مواطنها ومواسمها؟!
فما بالهم يخافون أن يتخطفهم الناس لو اتبعوا هدى الله؟!
أفمن أمَّنهم وهم عصاة يَدَع الناس يتخطفونهم وهم تقاة؟!
بل ماذا حصل لَمَّا اتبعوا الهدى مع محمد صلى الله عليه وسلم؟!
ألم تُفْتَح لهم مشارق الأرض ومغاربها؟!
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص:٥٧] لا يعلمون أين يكون الأمن، ولا يعلمون أين تكون المخافة، لا يعلمون أن الأمر كله لله.
إن بيت الله هو دار الهدى، رحابه الأمن، وجواره البركة، من قلب الحرم الأطهر انطلقت القصة الكبرى والخطب الجلل، في الحرم ولد الهدى وتنزل الوحي: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:١ - ٥].
من الحرم بدأت كتائب الإسلام زحفها لاستئصال الجاهلية، تبدد الظلام، وتوقظ النيام، وتنشر الإسلام، وتبسط السلام.
الارتباط بالبيت العتيق ارتباط بأهداب الرسالة وجذور الديانة.
من الأميين التائهين في الصحراء أُخْرِجَت للناس خير أمة، انتشروا وانبثوا كما تُرْسِل الشمس أشعتها حياةً للأرض المَيْتَة، وضياءً للقلوب المظلمة.
تدوِّي بطاحُ مكة لتحكي التاريخ، وسيرة العدل، ومسيرة الحق، وميزان القيم، وسوق الفضيلة.
على رمالها عُفِّر الشرك، وعلى جبالها تحطَّمت الأصنام، وفي شعابها أُزْهِقَ الباطل.
أيها الإخوة: هذا هو بيت الله، وتلكم هي بعض خصائص حرمه ومزايا كعبته.
وإن شئتم مزيداً من النظر والتأمل فتفكروا وتدبروا: ما الذي أتى بضيوف الرحمن؟!
وما الذي حبب للمجاورين الجوار؟!
ترى القلب الساكن يتحرك ويتحرك حتى يرحل إلى أطهر الأماكن! الانتقال إليه أجمل ساعات العمر! وشهوده أعز وقائع الدهر!
فلِلَّه كم لهذه الديار من حبيب وسليب؟!
وكم أُنْفِق في حبها وبلوغها وخدمتها من الأموال والأرواح؟!
كم نفوس طاهرات قد أحرمت؟! وكم أرواح زاكيات قد هتفت؟!
وكم شفاه نقيات كبرت وهللت؟! وكم أيْدٍ كريمات رمت واستلمت؟! وكم أقدام شريفات طافت وسعت؟!
هنا يتجلى الشرف والتقديس، حين تنتقل الخطى بين المشاعر، وتهتف مع الملأ الطاهر في مظاهر من التقوى، ورسوم من الخشوع، ورقة المشاعر، لا لباس أنصع من لباس الحجاج والمعتمرين، ولا عبير أزكى من شعث المحرمين والمجاهدين.
فيا لَشَرف رَكْب الملبِّين والطائفين! ويا لكرامة رءوس المحلِّقين والمقصِّرين! وناهيك ثم ناهيك بأنَّات التائبين وتأوُّهات الخاشعين، ومناجاة المنكسرين! هل أُتْعِبَت النفوس، وهل أُنْفِقَت الدراهم إلا في طاعة الله؟! وهل تُرِك الأهلون وعُطِّلَت الأعمال إلا طمعاً في جنة الله؟!
الإسلام هو الداعي، والإيمان هو الحادي.
لبيك لبيك لبيك، لا شريك لك، لبيك لبيك وسعديك، والخير كله بيديك.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:٢٦ - ٢٨].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
وأقول قولي هذا.
وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.