[القول الحسن في الدعوة إلى الله]
من هذه المسالك: القول الحسن: وهذا يعني أن رجل الدعوة إذا أحكم قوله، وسدد لفظه؛ فقد أوتي من الحكمة باباً عظيماً، يقول الله عز وجل: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:٨٣] يقول طلحة بن عمر: قلت لـ عطاء: إنك رجل يجتمع عندك ناس ذوو أهواء مختلفة، وأنا رجل فيَّ حدة، فأقول لهم بعض القول الغليظ.
فقال: لا تفعل، يقول الله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:٨٣] يقول عطاء: فدخل في هذه الآية اليهود والنصارى فيكف بالحنيفي؟!
وأورد القرطبي في تفسيره عند تفسير هذه الآية حديثاً عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يا عائشة! لا تكوني فحاشة، فإن الفحش -أي: السيئ في القول- لو كان رجلاً لكان رجل سوء}.
ويعلق القرطبي على هذا بقوله: "وهذا حض على مكارم الأخلاق؛ فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس ليناً، ووجهه منبسطاً طلقاً مع البر والفاجر، والقريب والبعيد، من غير مداهنة وسوف يأتي التفرقة بين المداهنة والمداراة- ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضي مذهبه"، هذا كلام القرطبي.
والقول يكون حسناً وحكمة بقدر ما يعتنى بأصول الكلام، ويبتعد عن فضوله -يكون الكلام جزلاً، ويكون الكلام مهماً لا يدخل في الثانويات وفي القضايا الجزئية- ويتحرك بنبضات القلب الحي، وهواجس النفس الصادقة، ويحسن الكلام حين يكون قصداً عدلاً -قصداً أي: وسطاً- ليس بالإيجاز المخل ولا الطويل الممل، وقد كانت خطبه عليه الصلاة والسلام قصداً، كما في الحديث الصحيح عند مسلم من رواية جابر بن سمرة رضي الله عنه.
تنبيه: هناك فرق بين مثل هذا اللقاء وبين خطبة الجمعة، فهذا اللقاء والخطب التي مثل هذا اللقاء -وإخواننا وزملاؤنا الذين يحضرون مثل هذه المحاضرات والندوات- معلومة أنها ندوات وأحاديث مفتوحة، بخلاف خطبة الجمعة؛ فإن خطبة الجمعة -فعلاً- ينبغي أن يهتم بها الأئمة -وفقهم الله- كأن تكون قصيرة على حد ما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الخطبة فرض على جميع الناس، وعلى جميع الفئات، والطبقات، ويأثمون إن لم يحضروا فإذا كان الأمر كذلك؛ فعلى الخطيب أن يراعي أحوالهم، بخلاف هذا الجمع الكريم، فإنكم أتيتم على اختياركم، ومن شاء أن ينصرف فلينصرف، بخلاف خطبة الجمعة، وهذا أمر ينبغي أن يلاحظ.
كذلك يقول بعض الناس: الناس إذا جاءوا المحاضرات نفروا، وإذا جلسوا في الملهيات جلسوا وأطالوا، وهذا لاشك أنه من طبائع النفوس؛ لأنهم جلسوا باختيارهم وخرجوا باختيارهم نعم! ينبغي أن يذكروا ويوعظوا، لكن لا ينبغي أن تكون المعالجة على هذا النحو.
واستمعوا إلى هذا الحوار الهادئ والقول الحسن، ونحن نتكلم عن القول الحسن في الجدال الحسن، فهذا حصين الخزاعي والد عمران، كانت قريش تعظمه وتجله، فطلبت منه أن يكلم محمداً صلى الله عليه وسلم في آلهتها، فقد كان يذكرها ويسبها، فجاء حصين ومعه بعض أفراد قريش حتى جلسوا قريباً من باب النبي صلى الله عليه وسلم، ودخل حصين، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: {وسعوا للشيخ -وهذا نوع من التكرمة- فقال حصين: ما هذا الذي بلغنا عنك أنك تشتم آلهتنا؟ فقال: يا حصين! كم تعبد من إله؟ قال: سبعة في الأرض وواحد في السماء.
فقال: فإذا أصابك الضر فمن تدعو؟ قال: الذي في السماء.
قال: فإذا هلك المال فمن تدعو؟ قال: الذي في السماء.
قال: أفيستجيب لك وحده وتشرك معه؟ يا حصين! أسلم تسلم} فأسلم، والمسألة فيها خلاف، والصحيح أنه أسلم، فقام إليه ولده عمران فقبل رأسه ويديه ورجليه، فلما أراد حصين الخروج قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {شيعوه إلى منزله} وهذا نوع من التكرمة، عجباً! دخل هذا الرجل كافراً ناقماً منتقماً، فخرج صادقاً مسلماً! ليت شعري كيف كان حال قريش مع صاحبها ووجيهها حينما دخل لهم بوجه وخرج لهم بوجه آخر؟!
ويدخل في ذلك: القول اللين، الذي يستميل النوازع البشرية، ووشائج القربى، وعبارات الحنو والشفقة، فإبراهيم عليه السلام نادى أباه بكلماتٍ مشفقة: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً} [مريم:٤٢ - ٤٥] إلى قوله: {سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} [مريم:٤٧] وقال الله عز وجل: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَة