لقد بدت وبدأت عوامل الضعف، وانحلت الدولة الأموية الواحدة الكبرى إلى دويلات وملوك وطوائف تنافس فيها أصحابها على السلطة، وتناحروا من أجل كراسي الحكم؛ فانتشر بينهم الغدر المستحكم، والخصام الدائم، والكيد المستمر؛ فلا همَّ لأحدهم إلا تحقيق مصالحه الذاتية، وإشباع أنانيته المفرطة، وكأن الأندلس إنما وجدت لمصلحته الخاصة مهما كان ذليل المكانة مهزوز القواعد.
إن كل تقدم حضاري، وسموٍ فكري، وثقل سياسي، وارتفاع معنوي، وعز سلطاني، إنما مرده إلى التمسك بدين الله، وهو مرهون بمقدار الالتزام بشرع الله والبعد عن الحياة اللاهية والمجون السافر والحقوق المهدرة يقول ابن خلدون: إذا تأذن الله بانقراض الملك في أمة حملهم على ارتكاب المذمومات، وانتحال الرذائل، وهذا ما حدث في الأندلس وأدَّى إلى ضياعها.
بل قد أدرك ذلك كاتبٌ من الخصوم يدون لذلك العصر فهو يقول: العرب هووا وسقطوا عندما نسوا فضائلهم التي جاءوا بها، أصبحوا على قلبٍ متقلب يميل إلى الخفة والمرح والاسترسال بالشهوات.
ألا ما أكثر العبر وأقل الاعتبار! وماذا عملت كثيرٌ من وسائل الإعلام الإسلامية اليوم؟ وكتاب ربكم يقول:{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً}[الإسراء:١٦].
أيها الإخوة: إن سنن الله في الأمم لا تتخلف، بل لقد ذكر ابن حزم شيئاً خطيراً في بيان الحال التي وصل إليها حكام دويلات الأندلس في سبيل مصالحهم الذاتية، وما يقدمونه للأعداء من تنازلات خطيرة، حتى قال: والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها، فنحن نراهم يستمدون الأعداء فيمكنوهم من حرم المسلمين وأبنائهم، وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعاً فأخلوها من الإسلام وعمروها بالنواقيس، فلا حول ولا قوة إلا بالله!
أيها الإخوة: إن التاريخ دروس وعبر، لقد انحرف هؤلاء الأسلاف عن دين الله، ووالوا أعداء الله، وتركوا الجهاد في سبيل الله، وقعدوا عن الدفاع عن حرمات المسلمين، وابتعدوا عن أسباب التآلف والاتحاد، وحلت الأثرة محل الإيثار؛ ثم من بعد ذلك تكالبت عليهم القوى المعادية، فتمكنت منهم ومزقتهم شر ممزق.