للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[طبائع النفوس وطبقات المدعوين]

أيها الإخوة: بعد هذا الاستعراض السريع لهذه الصفات البارزة من صفات الداعية، نأتي إلى بعض المسالك التي يحسن النظر فيها.

أقول: هذه إشارات في هذا الموضوع أظنكم استشعرتم من خلالها بعض المسالك التي نريد أن نبسط القول فيها من خلال ما سبق؛ من تعريف للحكمة وأبرز صفات رجل الدعوة: هذا بسط لبعض المعالم والمسالك التي أراها حقيقة في ذلك، وسوف يكون هذا البسط من خلال التعرف على طبائع النفوس، وطبقات المدعوين، وتخير الأوقات، وانتهاز المناسبات، ثم النظر في طرق الدعوة وأساليبها، من الإحسان في القول، والحرص على التلميح إذا أمكن الاستغناء به عن التصريح، والقصد إلى الستر والنصيحة، والبعد قدر الإمكان عن التشهير الذي قد ينقلب إلى فضيحة، وفي سلوك مسالك المداراة المشروعة، وإقالة العثرات ما أمكن، وإليكم -أيها الإخوة الأفاضل- بسطاً لبعض هذه المسالك.

المسلك الأول: طبائع النفوس وطبقات المدعوين.

أيها الإخوة! أيها الدعاة! الناس متباينون في طبائعهم، مختلفون في مداركهم في العلم والذكاء في الأمزجة والمشاعر مختلفون في الميول والاتجاهات؛ مما يفترض على رجل العلم والدعوة تخير المدخل، بل المداخل المناسبة لتلك النفوس المختلفة والعقول المتباينة؛ ففيهم الغضوب والهادئ، وفيهم المثقف والأمي، وفيهم الوجيه وغير الوجيه، بل إن ثمة كلمة لـ علي رضي الله عنه يصور القلوب -كل القلوب- بأنها وحشية، فيقول: [[القلوب وحشية، فمن تألفها أقبلت عليه]] يصورها رضي الله عنه وكأنها دوابٌ متوحشة لا تعرف الألفة في طبعها، ويبدو هذا -والله أعلم- في ميدان النصائح والتوجيهات، فهل رأيت من يرضى أن تنسبه إلى جهل، أو عدم معرفة، أو سوء في التصرف؟

إن الإنسان يعظم عليه أن ينسب إلى الجهل، ولذا تراه يغضب إذا نبه على الخطأ، ويجتهد في المحاجة، بل يجتهد في جحد الحق بعد معرفته خيفة أن ينكشف جهله يجب أن تعرفوا أن الناس هكذا الإنسان لا يحب أن ينكشف أو يعرف أنه جاهل لا يحب أن يعرف حتى ولو أنه على منكر، إذاً كيف تكون المعاجلة؟

هذا أمر مهم جداً.

أيها الإخوة! وأيها الشباب! أيها الدعاة: لا تشعر الإنسان أنه ناقص، أو جاهل، وإنما خذ بيده من الحضيض الذي هو فيه وارفعه بشفقة ورفق كما ترفع الأم وليدها وكما يرفع الأب ابنه.

إن القلوب في هذا الباب تنفر إذا اقترب منها بل لعلها بدافع الدفاع عن النفس تهجم وتؤذي، فأحياناً الدعاة إذا قابلوا صاحب منكر فإنه ينظر فيهم، هذا طبع يجب أن يعرفه الدعاة، فلا ينبغي للداعية إذا قابله صاحب منكر بكلام فظ أن يرد عليه بفظاظة مثله، إلا في بعض أحوال نادرة، لكن الأصل عدم ذلك.

إن القلوب تنفر إذا اقترب منها، خاصة في اقتراب الإنكار بالجهل وبالتسفيه، بل لعلها بدافع الدفاع عن النفس تهجم وتؤذي، فمن كان صاحب حكمة وفطنة في ترويض الوحوش فهو المفلح بتوفيق الله لهداية الناس، وصاحب الترويض الناجح هو الذي يحرص على تلمس الجانب الطيب في نفوس الناس، يقصد إلى شيء من العطف على أخطائهم وحماقاتهم، وشيء من العناية غير المتصنعة باهتماماتهم وهمومهم، وسوف يصل إلى مصدر النبع الخيِّر في نفوسهم، وحينئذٍ يمنحونه حبهم وثقتهم.

إن شيئاً من سعة الصدر والإحاطة بطبائع النفوس كفيل بتحقيق الخير في الناس، بنتيجة لا يظنها الكثيرون، ينبني على ذلك -أيها الإخوة- ملاحظة استيعاب المدعو وسعة مداركه، على معنى: أن الناس يختلفون في قدرة الاستيعاب ويختلفون في سعة المدارك -كما قلنا- ففيهم الجاهل والعالم، وفيهم الوجيه، وفيهم صاحب المنزلة، ومنهم من هو دون ذلك، فالمدعوون يختلفون في الاستيعاب وسعة المدارك، فلا يلقي رجل الدعوة إليه مالا يبلغه عقله، فيوقعه إما في النفرة والشرود، وإما في التخبط الفكري والدخول في غياهب الفتن، وفي ذلك يقول ابن مسعود رضي الله عنه: [[ما أنت بمحدثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة] ويقول علي رضي الله عنه: [[حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟]].