للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[طبيعة الإنسان في الدنيا]

الكلام طويل في وصف الدنيا، وفيما ينبغي أن يأخذ الإنسان فيها من عجب؛ لكن الأمر الذي نريد أن نركز عليه: طبيعة الإنسان في هذه الدنيا، وتقلباته فيها.

النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك} تنبيهات عجيبة عن حقيقة هذه الدنيا، وهذا هو الإنسان فيما اغتنمها، الحياة متقلبة ولا تستقر لأحد أبداً.

الرسول صلى الله عليه وسلم مع أنه أكرم الخلق على ربه، ومع ذلك مرض عليه الصلاة والسلام، وناله ما ناله من العناء، وتقلب في الأسفار، وفي الحضر، ومآسي فالإنسان ينبغي أن يقف من نفسه موقف محاسبة، ونقول هذا لأننا نتكلم عن التذكير.

{اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك} بالله يا إخواني! كم سمعتم الوعاظ دائماً يقولون: {شبابك قبل هرمك} ونعرف أن كثيراً من الشيوخ يعظون الشباب: يا ولدي انتبه لنفسك، يا ولدي كذا، كم ينبغي أن نراجع أنفسنا؟ وحينما يمر علينا الوعظ، وحين تمر علينا هذه الحكم، وتمر هذه الآيات والنذر، ينبغي أن يكون عندنا من الحياة القلبية ما نقف جادين من موقف المحاسبة.

{شبابك قبل هرمك} لماذا؟ لأن الشباب قوة، والشباب تعطي فيه عطاءً عجيباً، إذا جاء الهرم، بدأت الأرجل والركب ترتعش والخطى تقصر، كنت تصل إلى أقاصي الدنيا، والآن لا تستطيع أن تخرج من بيتك إلى طرف الشارع أو إلى الدكان المجاور، تغيرت الحال، والرسول صلى الله عليه وسلم يذكرك، هذه الدنيا منتهية ومتغيرة، فإن عشت؛ فلا بد من هرم، فإذاً لماذا لا تستغل الشباب قبل الهرم؟! وهذا خطاب لمن؟ إنه خطاب للشباب.

{شبابك قبل هرمك} إذا كان عندك فكر، وعندك القلب الحي، وعندك الخشية؛ فانظر إلى الشيوخ الكبار، يقال: كان أطفال يلعبون في السوق في سن العاشرة والحادية عشرة، فمر عليهم شيخ كبير هرم، يمشي بخطى متقاربة، فقام واحد من الصبيان فيه شقاوة، وقال: يا عم، لماذا أنت مثل المقيد؟ قال له: يا ولدي! الذي قيدني يفتل قيادك.

إذا طال بك العمر فإن القياد يفتل الآن، فالقضية خطيرة.

فينبغي للشباب إذا رأوا الشيوخ أن يتعظوا، أنت الآن في قوة تذهب إلى ما شئت، عندك همة، تكاد تطير إلى أعالي السماء، فينبغي أن تغتنم شبابك قبل هرمك.

{وصحتك قبل سقمك} يبدو لي أنه لا يوجد أحد إلا ومر بفترة مرض، وإن كانت بعض الأمراض أشد، خاصةً ممن يبتلى بمرض قد يرقد على السرير الأبيض مدة، كم يتمنى أن يكون صحيحاً! وإذا كان مريضاً يقول: والله إذا شفيت لأفعلنَّ كذا وكذا، سأراجع نفسي، وأراجع أوراقي، وبعد ذلك لا يفي بوعده.

ابن آدم عجيب! النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {وصحتك قبل سقمك} اعرف أنك صحيح؛ والحكمة المعروفة: الصحة تاج على رءوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى.

بالله ما هو شعورك عندما تزور مريضاً وتجلس عنده وتتحادث معه، ثم تخرج؟ كم هو يتبعك بنظراته، ويود لو أنه خرج معك، تخرج من غرفة المستشفى وأنت لا تبالي، أولادك يشتغلون مكانك، هو يتابعك بنظره، ويود لو أنه مشى معك، لكن المريض سقيم، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {وصحتك قبل سقمك} هذا هو التذكير، وهذا هو مدى تأثرنا بالتذكير!

{وغناك قبل فقرك} هذه هي إيجابيات الدنيا صحة في الأبدان، وقوة في الشباب، وثراء في الأموال، وإذا لم تستغلها في الخير فستندم، الشباب والصحة والغنى، فاغتنم غناك قبل فقرك، اغتنمه بماذا؟ بالخير، بصلة الرحم، بالصدقة، بالحلال، بأشياء كثيرة.

ولو أن إنساناً -نسأل الله السلامة- فلَّس، فكم سيضرب يداً على يد ويندم.

{وفراغك قبل شغلك} وهذه من أهم القضايا، لكن مع الأسف -يا إخواني- لا يكاد الإنسان يعرف أنه فارغ، أكثر الناس -خاصة في بلادنا- بعد أن أنعم الله علينا، وأصبح عندنا رخاء، وأمن وأمان، وأشياء كثيرة، لا توجد في بلاد أخرى كم يأتي إلينا من الجاليات يبتغون الرزق، ويبتغون الفضل، لماذا؟ لأن عندنا فرص أعمال، وعندنا خير كثير.

إذاً: عندنا فراغ كبير، والفراغ في أولادنا وفي شبابنا، فينبغي للإنسان أن يستغل الفراغ بعمل، لا تنتظر أن يوجد لك فرصة عمل، أنت اشتغل، والله لو كان هناك جدية، وتأملنا مثل هذا الحديث، واشتغلنا بالفراغ الحقيقي، لزاحمنا هؤلاء الإخوة -ولا نحسد أحداً- لكن ينبغي أن نزاحمهم حتى نشتغل نحن.

فكم عندنا فراغ! والفراغ قاتل، وأكثر ما يقع الناس في الموبقات بسبب الفراغ لماذا يسهر الإنسان؟

لو كان عنده شغل وراءه لما سهر، ولو كان عنده مرض لما سهر، ولو كان عنده عمل جاد لما سهر، ولو قال لك أبوك: غداً عندك سفر، كيف تكون مشغولاً! ولو قالوا لك: عندك غداً منافسة فلن تنام؛ لأن الذي يقطع وقته في الأشياء الفارغة هو الفارغ، سهر ليل على ملهيات، وعلى وسائل إعلام سيئة، وكلها لا تجوز.

{فراغك قبل شغلك} بينما تشغل نفسك بشيء تندم عليه، أحياناً تصاب بشدة عمل بحيث تتمنى فيه فرصة أو إجازة، فعليك أن تستغل الفراغ، الله عز وجل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الشرح:٧] ما قال فإذا فرغت فالعب {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} الشرح:٧].

الرسول صلى الله عليه وسلم كان يشتغل: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:١ - ٨] إذا فرغت؛ اشتغل واعمل.

{وحياتك قبل موتك} أي: كل حياتك، سواء كنت مريضاً أو صحيحاً، شاباً أو هرماً، فقيراً أو غنياً، الحياة لكل الناس، ليست للفقراء، ولا للأغنياء، ولا للأصحاء، إن الحياة للكل، فما عليك إلا أن تستغلها، والموت لا بد أن يأتي، الموت آتٍ آتٍ، فعليك أن تغتنم حياتك قبل موتك؛ لأن الموت آتٍ وأنت محاسب، والحياة ثلاثون أو خمسون أو ستون سنة فاستغلها.

قال صلى الله عليه وسلم -­وهي حقيقة مخيفة، وهي تمثل جانباً آخر فيما سبق- {ما ينتظر أحدكم إلا غنىً مطغياً} قد تبتلى فعلاً بالغنى؛ لأن الغنى بلاء وابتلاء: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:٣٥] {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:٨].

{ما ينتظر أحدكم إلا غنىً مطغياً} {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:٦ - ٧] فأنت ينبغي أن تستغلها، وأن تتقي الله عز وجل، ولا تغبط الأغنياء؛ لأنه أحياناً قد تكون الدنيا ملهية، وقد تكون بلاءً، وقد تكون عذاباً، بل حتى في الدنيا -وأنتم تعرفون حياة بعض الأغنياء- وذلك لأمرين:

أولاً: قد يكون الترف يؤدي بهم إلى أمراض معروفة، من الضغط والسكر وغيرها.

ثانياً: كم