السنة والسيرة بمعنى واحد في هذا الباب، فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم بعث بالتوحيد، فأول ما أمر به {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}[المدثر:١ - ٣] معنى وربك فكبر: توحيد، وقلنا: إن تقديم المعمول قبل العامل من التخصيص {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}[المدثر:٤ - ٥] الرجز الأصنام.
فإذاً هذا الذي أمر به هو توحيد، ثم أمر بإنذار العشيرة {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ * وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}[الشعراء:٢١٣ - ٢١٤] وحاشاه عليه الصلاة والسلام.
ثم الأمر بالصدع، لا حظوا أننا نتحدث عن الآيات التي فيها التوحيد، وإلا فهناك أشياء كثيرة في التدرج في التشريع، لكن نتلمس الآيات في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وتوجيه القرآن له، فهو قد قيل له:{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}[المدثر:٣] وقيل: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}[المدثر:٥] وهو مع الأقربين من عشيرته: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ * وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}[الشعراء:٢١٣ - ٢١٤] ثم أمر بالصدع في القوم كلهم {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}[الحجر:٩٤] وبعد الهجرة أيضاً لم ينته التوحيد، محمد صلى الله عليه وسلم يقول لصاحبه أبي بكر:{لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}[التوبة:٤٠] القضية تثبيت مرتبة المعية، وهي كما تعلمون من توحيد الأسماء والصفات، وهي تعني حقيقتها كما قال العلماء: توحيد الربوبية مستلزم توحيد الألوهية وتوحيد الألوهية متضمن توحيد الربوبية.
والذي بقي توجيهات ونحن نتدرج في تاريخ السيرة، قال:{الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ}[الحج:٤٠] القضية قضية توحيد {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}[البروج:٨].
إلى فتح مكة تجد إعلان التوحيد، ويحطم النبي صلى الله عليه وسلم الأصنام وهو يتلو:{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً}[الإسراء:٨١] إلى أن جاءه الموت عليه الصلاة والسلام وأعلن في القرآن في قوله عز وجل: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ}[النصر:١ - ٣] تنزيه {بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ استغفاره بالعبادة {إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً}[لنصر:٣].
والنبي صلى الله عليه وسلم وهو في مرض الموت كان يقول:{لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد} وهذا من آخر ما قال.
إذاً ليس التوحيد في عهد مكة وليس القرآن المكي فقط هو من يتدث عن التوحيد، بل التوحيد صحب السيرة كلها من {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}[المدثر:٥] إلى {لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد} وهو في مرض الموت عليه الصلاة والسلام.
ولهذا نقول: يا إخواني لم تخل فترة من هذه الفترات ألبتة من إعلان التوحيد وشواهده، ومحاربة الشرك وظواهره، ويكاد ينحصر عرض البعثة كلها في ذلك، فما ترك عليه الصلاة والسلام صغيراً ولا كبيراً وهو وحيد، ولا ذهل عنه وهو محصور في الشعب، ولا انصرف عنه وهو في مسألة الهجرة والعدو مشتد في طلبه، ولا قطع الحديث عنه وأمره ظاهر في المدينة وأنصاره وأعوانه متظاهرين، ولا أغلق باب الخوض فيه بعد فتح مكة الفتح المبين، ولا اكتفى بطلب البيعة على القتال عن تكرار أمر البيعة على التوحيد {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً}[الممتحنة:١٢] فهذه سيرته المدونة وأحاديثه الصحيحة والقرآن من وراء ذلك كله توحيد، ولو تتبعتم وتلمستم لوجدتم شيئاً عجيباً لا في القرآن ولا في السيرة، ولهذا نقول: ومن أجلها كان التوحيد أولاً ولابد أن يكون أولاً في كل عصر وفي كل مصر.