[الدرس الثالث: حال الأنصار في قسمة الغنائم]
ومن الدروس العظيمة أيها الإخوة: الدرس الأنصاري في قسمة الغنائم مما لا ينفك عنه الطبع البشري، ثم من بعده العلاج النبوي.
يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: {لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم يوم حنين، وقسَم للمتألفين من قريش وسائر العرب ما قسم، لم يكن في الأنصار شيء منها، ووجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم شيئاً، حتى قال قائلهم: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه.
فمشى سعد بن عبادة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن هذا الحي من الأنصار وجدوا عليك في أنفسهم، قال: فِيْمَ؟ قال: فيما كان من قَسْمِك هذه الغنائم في قومك وفي سائر العرب، ولم يكن فيهم من ذلك شيء.
قال رسول صلى الله عليه وسلم: فأين أنت من ذلك يا سعد؟! فقال: ما أنا إلا امرؤ من قومي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجمع لي قومك فإن اجتمعوا فأعلمني.
فخرج سعد فصرخ فيهم فجمعهم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقام فيهم خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: يا معشر الأنصار! ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم، قالوا: بلى.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تجيبون يا معشر الأنصار؟! قالوا: وما نقول يا رسول الله؟! وبماذا نجيبك؟! المنّ لله ولرسوله.
قال: والله لو شئتم لقلتم فصَدَقْتُم وصُدِّقْتُم، جئتنا طريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك، وخائفاً فآمناك، ومخذولاً فنصرناك، فقالوا: المنّ لله ولرسوله.
فقال: أوَجدتم في نفوسكم يا معشر الأنصار! في لعاعة من الدنيا تألفتُ بها قوماً أسلموا، ووَكَلْتُكُم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام؟! أفلا ترضون يا معشر الأنصار! أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟! فوالذي نفسي بيده! لو أن الناس سلكوا شعباً وسلك الأنصار شعباً لسلكتُ شعب الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار، الأنصار شعار، والناس دثار، وإنكم ستلقون بعيد أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض، فبكى القوم حتى اخضلت لحاهم، قالوا: رضينا بالله رباً وبرسول الله قَسْماً} الله أكبر!
إنهم الأنصار، مَثَلٌ فريد للرجال الذين تقوم بهم المهمات العظمى، وإن شأن الدنيا أنزل قدراً من أن يأسى لها رجل العقيدة والإيمان، وإن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأنصار ليفيض بمشاعر المحبة للأنصار، ويفيض بدلائل التألم النبوي أن يُتَهم من قبل أحب الناس إليه.
لقد لامست هذه الخفقات مشاعر الأنصار، ونفضت ما عسى أن يكون قد علق بهم من الوساوس والهواجس، فأجهشت بالبكاء الصدور وارتفعت بالنشيج الأصوات، واخضلت بالدموع اللحى.
ثم متى كان المال في ميزان رسول الله صلى الله عليه وسلم دليلاً على التقدير أو برهاناً على الحب، لقد كان نصيبه كنصيب الأنصار، فالمال أعطاه مَن أعطاه، وعاد بالأنصار وعادت الأنصار به؛ ليكون المحيا والممات بينهم، صلى الله عليه وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأبرار من المهاجرين والأنصار، وجمعنا تحت لوائه المحمود، وسقانا من حوضه المورود بمنه وكرمه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:٢٥ - ٢٧].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة؛ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.