[وسائل الاتصال سلاح ذو حدين]
الحمد لله الذي نصب على وحدانيته من آياته ومخلوقاته دليلاً، ووعَدَ العاملين المحسنين رحمةً منه وفضلاً، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأتوكل عليه وكفى به وكيلاً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً خالصة تورث صاحبها ظلاً ظليلاً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله اصطفاه رسولاً، واجتباه نبياً واتخذه خليلاً، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، وتابعيهم بإحسان، صلاةً وسلاماً دائمَين بكرةً وأصيلاً.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، وجدوا في الطاعات، واحترسوا من الشهوات، واحذروا الغفلات؛ فإن الغفلات قواتل، واغتنموا بالصالحات أيامكم، وأصلحوا بالإخلاص أحوالكم، فالأيام قلائل هلاَّ عقلتم حالكم، وذكرتم ارتحالكم، وأصلحتم أعمالكم، واعتبر الأواخر بالأوائل؟! ولقد علمتم أن كل مَن كان على وجه هذه البسيطة راحل، فأين المتبصر وأين العاقل؟! {يُنَبَّأُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة:١٣] * {بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:١٤] * {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة:١٥].
أيها المسلمون: خلق الله السماوات والأرض بالحق، وأرسل رُسَله وأنزل عليهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، وأمور الناس وشئونهم لا تصلح ولا تستقيم إلا بالحق، وحَيرة البشرية وشِقْوتها ترجع إلى تفريطها في الحق، وإخلالها بموازين العدل، وغفلتها عن سريان الباطل وفشُوِّ الظلم وشيوع الأكاذيب وانتشار الأوهام، وسلوك مسالك الزور والتزوير في أنفسهم وعلومهم وأنبائهم.
إن نجاح الأمم وصلاح البشر يعود إلى جملة ما يقوم عليه الناس، ويقدمونه من فعل الحق، وقول الصدق، وفشُوِّ العدل؛ فإن كانت ثروتها من الحق والصدق والعدل كبيرة سبقت سبقاً بعيداً، وإن كانت غير ذلك سقطت في هُوَّة لا قرار لها من التهريج والخبط، والادعاء والهزل، مما لا يغني فتيلاً، ولا يهدي سبيلاً.
إن المجتمع الصالح لا يُبْنَى إلا بمحاربة الظنون، وطرح الرَّيب، ورفض الشائعات.
وإن الحقائق وحدها هي التي يجب أن تظهر وتغلب وتسود.
يقال ذلك -أيها الإخوة المسلمون- وقد يسَّر الله لأبناء هذا العصر ما يسَّر من اكتشافات، واختراعات في وسائل الاتصال وتقنياته، من أنواع الهواتف، وشبكات المعلومات، وقنوات البث، وغيرها من وسائل الاتصال والإعلام، من مسموعها، ومقروئها ومرئيها.
إنها وسائل خيرٍ لأهل الخير توفر الأوقات، وتقصِّر المسافات، وتصِل بجميع الجهات والاتجاهات، وتُستخدم في الصالحات والنافعات؛ من سؤال أهل الذكر، والفقه في الدين، وتعلم النافع المفيد، وصلة الرحم، والاتصال بالأخيار، وبذل النصح والتوجيه، والإفتاء والاستفتاء، والتثقيف والمتعة المباحة، ومواعيد الخير، وإنجاز الأعمال، وحسن استغلال الأوقات.
إن فضلها وخيرها غير منكورٍ لمن وُفِّق في حسن استخدامها والإفادة منها، يتوفر فيها الجهد، ويُحفظ بها الوقت، ويُلَبَّى بها المطلوب، وترفع مشقة الذهاب والإياب فلله الحمد والمنة.
ومع كل هذا الخير؛ فقد أساء بعض الناس استعمالها، فكانت شراً لأهل الشر؛ في جلب الشقاء، وزرع البغضاء، وإيغار الصدور، وغرس الشحناء، ونشر الأكاذيب، وضياع الأوقات، وإشاعة الفتن بين طبقات الناس وفئاتها، من حكامٍ ومحكومين، وعلماءَ وعامة، ورجالٍ ونساء.
ولقد أنتجت بعض هذه الوسائل مواقع للناس يرتادونها، وأحاديث يتداولونها، وصفحات يتجاذبون فيها أحاديث ومعلومات، وشاشات وقنوات ينتدون فيها ويتحاورون.
وإن المتأمل فيها ليلحظ خللاً كبيراً، وقصوراً كثيراًَ، من الهذر الضار، واللغو الباطل، {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:١١٤].
فما أعظم الخلاف في تلك المنتديات والقنوات! وما أكثر الشائعات في تلك المواقع والصفحات! كم حصلت من أمور كان عاقبتها خُسراً! وقد يكون بعض الحق فيضيف إليه بعضُ الناس من الأكاذيب والأوهام وسوء التأويل ما يضيع معه الحق ويسوء به الظن تتبعٌ للعثرات، وتضخيمٌ للهفوات، وحيف في القول، وجفاءٌ عن العدل، فالزلة عندهم تدفِن وافر الفضائل وكثير الحق.