[التوحيد في القرآن]
القرآن كله أحاديث عن التوحيد -كما فصل ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله- وبيان حقيقته، والدعوة إليه، وتعليق النجاة والسعادة في الدارين عليه، حديث عن جزاء أهله وكرامتهم على ربهم، كما أنه حديثٌ عن ضده من الشرك بالله، وبيان حال أهله وسوء منقلبه في الدنيا وعذابهم في الأخرى.
ولو حاولنا أن نقسم الآيات التي تخاطب الناس في التوحيد، لوجدنا أن الله عز وجل خاطب الكفار وخاطب المؤمنين وخاطب الأنبياء، فهناك شيء عجيب من عناية القرآن بالتوحيد، فكل القرآن العظيم خاطب الكفار بالتوحيد؛ ليعرفوه وليؤمنوا ويعتنوا به، فالله عز وجل يقول للناس: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة:٢١] ويقول: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:٥٠ - ٥١] في آيات كثيرة جداً.
وكل نبي يقول لقومه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:٥٩] نوح وهود وصالح وشعيب ولوط وإبراهيم وموسى وعيسى كل نبي يقول: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:٥٩] والله عز وجل يخبر عن نبيه في آيات إيمانية: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:٢٥] كل الأمم منهم الكفار خوطبوا في التوحيد ليعرفوه ويؤمنوا به.
وخوطب به المؤمنون، سواء حينما كانوا في مكة أو كانوا في المدينة، وبعض العلماء الذين يكتبون في التاريخ يقولون: إن من مظاهر القرآن المكي أنه يتحدث عن العقيدة والتوحيد، والحقيقة أن المكي والمدني كله يتحدث عن التوحيد، فهذا أمر يحتاج إلى نظر، وإن كانت -ولاشك- طريقة المخاطبة اختلفت، لكن الأحكام كلها في أركان الإسلام الكبرى، سوف نرى أنها أيضاً لب التوحيد وهي أحكام.
فالله عز وجل يخاطب المؤمنين بالتوحيد ليزدادوا إيماناً، وليطمئنوا إلى تحقيق توحيدهم، وليحذروا النقص والخلل فيه، فلهذا قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً} [النساء:١٣٦] بل عباد الرحمن من صفاتهم: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} [الفرقان:٦٨] مع أنهم عباد الرحمن والله أثنى عليهم، وذكر من صفاتهم: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} [الفرقان:٦٨].
مما يدل على أن القضية كبيرة وليست خاصة بخطاب بالكفار، أن الله عز وجل خاطب بها حتى المسلم، وسوف نرى في فقرة الخوف من الشرك شيء عجيب، فالأمر ليس سهلاً.
وكما قلنا لكم: اجتهدوا وأنتم تقرءون القرآن، وتأملوا كيف يكاد يكون في كل آية إشارة إلى التوحيد، إما صريحة وإما مرد، وإما غاية، وإما مآل، وإما وسيلة، وإما كمال إلخ.
فعباد الرحمن {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} [الفرقان:٦٨] والموعودون بالتمكين في الأرض في قوله عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور:٥٥] فأخف خصائص المؤمنين والمسلمين والمحبوبين إلى الله عز وجل والمقربين منه والموعودين بالتمكين في الأرض أنهم يعبدونني لا يشركون بي شيئاً، وهذا مما يدل على أنه يجب أن تكون هي قضية القضايا وهي سبيل الشرع.
والمؤمنات في آية البيعة فيهن ميمونة، لكن الله خاطب نبيه في مخاطبة المؤمنات: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ} [الممتحنة:١٢] سماهن المؤمنات وهن مؤمنات {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً} [الممتحنة:١٢] ومعلوم من الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع المؤمنين والمؤمنات، فهن قد جئن مؤمنات يبايعن على ترك الشرك.
أما الأنبياء والرسل فقد خاطبهم الله أيضاً بالتحذير من الشرك، مع أنه حاشاهم عليهم السلام، مما يدلك على كبر القضية، فالله عز وجل قال لإبراهيم: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} [الحج:٢٦] حاشاهم وهو الذي أثنى عليه ربه فقال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ} [الممتحنة:٤] ومع هذا أوحى الله إليه وأكد عليه ألا تشرك: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} [الحج:٢٦] ولهذا إبراهيم خشي على ذريته الشرك، كما ورد في أول مفتتح الحديث: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم:٣٥ - ٣٦].
ولهذا أيضاً فيما حكى الله عنه: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة:١٢٨] وقال: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ