كتب الأحكام زخرت بمسائل فقهية، ومعالجات استنباطية دقيقة، تدل على ما كان يبذله السلف رحمهم الله في حل مشكلات الأمة، مع ما يتصفون به من ورع، غير أن هناك أحكاماً مبثوثة -نمثلها بمثال واحد وبه أختم هذا اللقاء المبارك- غير أن هناك أحكاماً مبثوثة في مدونات الفقهاء رحمهم الله، ليس مستندها النص لكنهم ربطوها بأعراف وعادات مبنية على معرفة بشرية بحتة، وإذا كانت هذه المسائل على هذا النحو، فمعلوم أنه إذا جاء ما يدل على خلافها بطريقة قطعية أو ظن وارد، فلا يكون للاستمساك بها وجه وجيه، ويؤخذ مثال على ذلك أقصى مدة الحمل؛ فأقصاه عند أبي حنيفة رحمه الله إلى سنتان، وعند أحمد والشافعي رحمهم الله أربع، وعند الليث ومالك رحمهم الله في المشهور عنه خمس، وعند الزهري ومالك سبع، وقد حكى ذلك ابن حزم في المحلى.
ومستند القائلين بالسنتين أثر عن عائشة رضي الله عنها أن المرأة لا تزيد في حملها على سنتين، وقالوا: إن مثل هذا لا يقال بالرأي من قبل عائشة فله حكم المرفوع، ولكن الإمام مالكاً رحمه الله حينما حدث بهذا الأثر كما ذكر البيهقي في السنن قال: سبحان الله! من يقول هذا؟ هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان امرأة صدق، وزوجها رجل صدق حملت ثلاثة أبطن في اثنتي عشرة سنة، تحمل كل بطن أربع سنين، أي أن مالكاً لم ير قول عائشة هذا من قِبَل المرفوع.
ثم يأتي ابن حزم ليعلق على الجميع؛ فيقول في مباراة فقهية على ما فيها من شدة حزمية معهودة قال: ولا يجوز أن يكون حمل أكثر من تسعة أشهر ولا أقل من ستة أشهر لقول الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً}[الأحقاف:١٥] مع قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}[البقرة:٢٣٣] فمن ادعى أن حملاً وفصالاً يكون في أكثر من ثلاثين شهراً فقد قال بالباطل والمحال، ورد كلام الله عز وجل جهاراً.
ثم ضعف ما روي عن عائشة وقال في قصة نساء بني العجلان: إنها أقوال مكذوبة راجعة إلى من لا يصدق ولا يعرف منه ولا يجوز الحكم في دين الله بمثل هذا.
ويوضح هذا التوجه الشيخ محمد الهند في فتاواه ويقول: إننا إذا بني أحكام الحمل على مثل أقوال النساء هذه، نكون قد خالفنا القرآن، وخالفنا الثابت المطرد في مدة حمل المرأة؛ فهي لا تكاد تبلغ سنة واحدة فضلاً عن عدة سنين، وخالفنا القياس الفقهي، على تقدير صدق أولئك العجائز إن أخبرنا به الأئمة من أن ذاك وقع شذوذاً؛ فكيف إذا لم يصدقوا؟! وخالفنا ما قرره أطباء هذا العصر من جميع الملل والنحل على سعة علمهم بالطب والتشريح وعلم وظائف الأعضاء، واستعانتهم في بحثهم واختبارهم بالآلات والمجسات والمسابير والأشعة، وعلى بناء علمهم على التجربة والاستقراء، واستعانة بعضهم في ذلك ببعض على اختلاف الأقطار لسهولة المواصلات البريدية والبرقية، وكثرة النساء اللاتي تعوَّدن على الجرأة في القول، وعدم خجلهم من إظهار ما لم يكن يظهره أمثالهن في بلادهن أو غيرها من قبل هذا كلام فيه نظر.
أقول ولعلك بهذا تدرك: أن المسألة خاضعة للنظر وراجعة إلى ما تغلب فيه العوائد من أحوال النساء على ما تميز به هذا العصر من دقة المعرفة العلمية على التجربة والكشف والنظر بحاسة لا على التخمين والحدس.
ولعلي بهذا أنهي ما سمعتم، أرجو أن يكون ما ذكرته فيه فائدة وفيه وضوح، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.